صفحة جزء
المسألة الرابعة : اعلم أن قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون ) قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط :

أولها : قوله تعالى : ( حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا .

واعلم أن من يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بإرشاد النبي المعصوم قال : [ ص: 132 ] لأن قوله : ( لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) تصريح بأنه لا يحصل لهم الإيمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما اختلفوا فيه ، ونرى أهل العلم مختلفين في صفات الله سبحانه وتعالى ، فمن معطل ومن مشبه ، ومن قدري ومن جبري ، فلزم بحكم هذه الآية أنه لا يحصل الإيمان إلا بحكمه وإرشاده وهدايته ، وحققوا ذلك بأن عقول أكثر الخلق ناقصة وغير وافية بإدراك هذه الحقائق ؟ وعقل النبي المعصوم كامل مشرق ، فإذا اتصل إشراق نوره بعقول الأمة قويت عقولهم وانقلبت من النقص إلى الكمال ، ومن الضعف إلى القوة ، فقدروا عند ذلك على معرفة هذه الأسرار الإلهية . والذي يؤكد ذلك أن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا جازمين متيقنين كاملي الإيمان والمعرفة ، والذين بعدوا عنه اضطربوا أو اختلفوا ، وهذه المذاهب ما تولدت إلا بعد زمان الصحابة والتابعين ، فثبت أن الأمر كما ذكرنا ، والتمسك بهذه الآية رأيته في كتب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، فيقال له : فهذا الاستقلال الذي ذكرته إنما استخرجته من عقلك ، فإذا كان عقول الأكثرين ناقصة فلعلك ذكرت هذا الاستدلال لنقصان عقلك ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب أن يشك في صحة مذهبك وصحة هذا الدليل الذي تمسكت به ، ولأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الإله ، فلو توقفت معرفة الإله على معرفة النبوة لزم الدور ، وهو محال .

الشرط الثاني : قوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) قال الزجاج : لا تضيق صدورهم من أقضيتك .

واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب ، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر ، فليس المراد من الآية ذلك ، بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق .

الشرط الثالث : قوله تعالى : ( ويسلموا تسليما ) واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول ، فبين تعالى أنه كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب . فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر ، فقوله : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) المراد به الانقياد في الباطن ، وقوله : ( ويسلموا تسليما ) المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية