صفحة جزء
الفرع الثاني : أن من الناس من يعبد الله لطلب الثواب ، وهو جهل وسخف ، ويدل عليه وجوه :

الأول : أن من عبد الله ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر ، كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء ، فمن عبد الله لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب ، وكان الله تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود ، وهذا جهل عظيم .

الثاني : أنه لو قال : أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب - لم تصح صلاته .

الثالث : أن من عمل عملا لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة ، فمن عبد الله للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد الله ، ومن كان كذلك لم يكن محبا لله ، ولم يكن راغبا في عبادة الله ، وكل ذلك جهل ، ومن الناس من يعبد الله لغرض أعلى من الأول ، وهو أن يتشرف بخدمة الله ؛ لأنه إذا شرع في الصلاة حصلت النية في القلب ، وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية ، وحصل الذكر في اللسان ، وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء ، فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة الله ، فمقصود العبد حصول هذا الشرف .

الفرع الثالث : من الناس من طعن في قول من يقول : الإله هو المعبود من وجوه :

الأول : أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة .

الثاني : أنه تعالى إله الجمادات والبهائم ، مع أن صدور العبادة منها محال .

الثالث : أنه تعالى إله المجانين والأطفال ، مع أنه لا تصدر العبادة عنها .

الرابع : أن المعبود ليس له بكونه معبودا صفة ؛ لأنه لا معنى لكونه معبودا إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان ، ومعلوم بعلمه ، ومراد خدمته بإرادته ، وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة لله تعالى . الخامس : يلزم أن يقال : إنه تعالى ما كان إلها في الأزل .

الفرع الرابع : من الناس من قال : الإله ليس عبارة عن المعبود ، بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبودا ، وهذا القول أيضا يرد عليه أن لا يكون إلها للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين ، وأن لا يكون إلها في الأزل ، ومنهم من قال : إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة [ ص: 134 ] عنه ، واعلم أنا إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلها في الأزل ، ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلها في الأزل .

التفسير الثاني : الإله مشتق من ألهت إلى فلان ، أي : سكنت إليه ، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره ، والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته ، وبيانه من وجوه :

الأول : أن الكمال محبوب لذاته ، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته ؛ لأن الممكن من حيث هو هو معدوم ، والعدم أصل النقصان ، والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته ، فإذا كان الكامل محبوبا لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوبا لذاته .

الثاني : أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا يقف عند نفسه ، بل يبقى متعلقا بغيره ؛ لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره ، فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه ، بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد ، وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي ، فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته ، والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه ، وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] .

التفسير الثالث : أنه مشتق من الوله ، وهو ذهاب العقل . واعلم أن الخلق قسمان : واصلون إلى ساحل بحر معرفته ومحرومون ، فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة ، فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم ، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال ، فتاهوا في ميادين الصمدية ، وبادوا في عرصة الفردانية ، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته ، فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو ، وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت ، فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار ، والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار ، فالأولون بادوا في أودية الظلمات ، والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات .

التفسير الرابع : أنه مشتق من " لاه " إذا ارتفع ، والحق سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات ؛ لأن الواجب لذاته ليس إلا هو ، والكامل لذاته ليس إلا هو ، والأحد الحق في هويته ليس إلا هو ، والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو ، وأيضا فهو تعالى مرتفع عن أن يقال : إن ارتفاعه بحسب المكان ؛ لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض ؛ لأجل حصوله في ذلك المكان ، وما بالذات أشرف مما بالغير ، فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن ، ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان ، وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان .

التفسير الخامس : من " أله في الشيء " إذا تحير فيه ولم يهتد إليه ، فالعبد إذا تفكر فيه تحير ؛ لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه . فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه ؛ لأن كل ما سواه فهو محتاج ، وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال ، وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال : إنه هو كذبته نفسه أيضا ؛ لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه ، فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك ، فهاهنا العجز عن درك الإدراك إدراك ، ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه .

[ ص: 135 ] التفسير السادس : من لاه يلوه إذا احتجب ، ومعنى كونه محتجبا من وجوه :

الأول : أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول .

الثاني : أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة ، كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائلة عنها ، فحينئذ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها ، إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران ، فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس ، فكذا هاهنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس ، فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات ، فحينئذ كان يظهر أن نور الوجود منه ، لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالا ، لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها ، فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره ؛ فلهذا قال بعض المحققين : سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره ، واختفى عنها بكمال نوره . وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول ، ولا يجوز أن يقال : محجوبة ؛ لأن المحجوب مقهور ، والمقهور يليق بالعبد ، أما الحق فقاهر ، وصفة الاحتجاب صفة القهر ، فالحق محتجب ، والخلق محجوبون .

التفسير السابع : اشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال ، ويدل عليه أمور :

الأول : أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى ، فيقول بقلبه ولسانه : يا رب ، يا رب ، فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة ، وهذا فعل متناقض ؛ لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله ، وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله ، وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات ، وأما الفزع إليه عند الضرورات ، والإعراض عنه عند الراحات ، فلا يليق بأرباب الهدايات .

والثاني : أن الخير والراحة مطلوب من الله ، والثالث : أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره ، فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان ، فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة ، والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات ، والخلق مشغوفون بالرجوع إليه .

شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس ، فقال الأستاذ : كنت حدادا عشر سنين ، وقصارا عشرة أخرى ، وبوابا عشرة ثالثة ، فقالوا : ما رأيناك فعلت ذلك ، قال : فعلت ولكنكم ما رأيتم ، أما عرفتم أن القلب كالحديد ؟ فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين ، ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين ، ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف " لا إله إلا الله " فلم أزل حتى يخرج منه حب غير الله ، ولم أزل حتى يدخل فيه حب الله تعالى ، فلما خلت عرصة القلب عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله ، سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة ، وفني عن الكل ، ولم يبق فيه إلا محض سر " لا إله إلا الله " .

التالي السابق


الخدمات العلمية