صفحة جزء
( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) .

قوله تعالى : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) .

في النظم وجهان :

الأول : أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها ، فقوله : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) كقوله تعالى : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) [ الأنفال : 61 ] .

الثاني : أن الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه ، فقد لا يلتفت إلى سلامه عليه ويقتله ، وربما ظهر أنه كان مسلما ، فمنع الله المؤمنين عنه وأمرهم أن كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الإكرام يقابلونه بمثل ذلك الإكرام أو أزيد ، فإنه إن كان كافرا لا يضر المسلم أن قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الإكرام ، أما إن كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : التحية تفعلة من حييت ، وكان في الأصل تحيية ، مثل التوصية والتسمية ، والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الأربعة ، نحو قوله : ( وتصلية جحيم ) [ الواقعة : 94 ] فثبت أن التحية أصلها [ ص: 167 ] التحيية ثم أدغموا الياء في الياء .

المسألة الثانية : اعلم أن عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا : حياك الله ، واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة ، فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله ، فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام ، فجعلوا التحية اسما للسلام . قال تعالى : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 44 ] ومنه قول المصلي : التحيات لله ، أي السلام من الآفات لله ، والأشعار ناطقة بذلك . قال عنترة :


حييت من طلل تقادم عهده



وقال آخر :


إنا محيوك يا سلمى فحيينا



واعلم أن قول القائل لغيره : السلام عليك أتم وأكمل من قوله : حياك الله ، وبيانه من وجوه :

الأول : أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة ، وليس إذا كان حيا كان سليما ، فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات ، فثبت أن قوله : السلام عليك أتم وأكمل من قوله : حياك الله .

الثاني : أن السلام اسم من أسماء الله تعالى ، فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد إبقاء السلامة على عباده أكمل من قوله : حياك الله .

الثالث : أن قول الإنسان لغيره : السلام عليك فيه بشارة بالسلامة ، وقوله : حياك الله لا يفيد ذلك ، فكان هذا أكمل . ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول ، أما القرآن فمن وجوه :

الأول : اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا :

أولها : أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل ، ألا ترى أنه قال في وصف ذاته : الملك القدوس السلام .

وثانيها : أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا ، فقال : ( قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) [ هود : 48 ] والمراد منه أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وثالثها : سلم عليك على لسان جبريل ، فقال : ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ) [ القدر : 5 ] قال المفسرون : إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، فقال الله : لا تهتم لذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا ، إلا إني جعلت جبريل خليفة لك ، ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني .

ورابعها : سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال : ( والسلام على من اتبع الهدى ) [ طه : 47 ] فإذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك .

وخامسها : سلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) [ النمل : 59 ] وكل من هدى الله إلى الإيمان فقد اصطفاه ، كما قال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) [ فاطر : 32 ] .

وسادسها : أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلام على سبيل المشافهة ، فقال : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) [ الأنعام : 54 ] .

وسابعها : أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتسليم عليك قال : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) .

وثامنها : سلم عليك على لسان ملك الموت فقال : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ) [ النحل : 32 ] قيل : إن ملك الموت يقول في أذن المسلم : السلام يقرئك السلام ، ويقول : أجبني فإني مشتاق إليك ، واشتاقت الجنات والحور العين إليك ، فإذا سمع المؤمن البشارة ، يقول لملك الموت : للبشير مني هدية ، ولا هدية أعز من روحي ، فاقبض روحي هدية لك .

وتاسعها : السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة ، قال تعالى : ( وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين ) [ الواقعة : 91 ] .

وعاشرها : سلم الله عليك على لسان رضوان خازن [ ص: 168 ] الجنة فقال تعالى : ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا ) [ الزمر : 73 ] إلى قوله : ( وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم ) [ الزمر : 73 ] .

والحادي عشر : إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم . قال تعالى : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [ الرعد : 24 ] .

والثاني عشر : السلام من الله من غير واسطة وهو قوله : ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 44 ] وقوله : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 57 ] وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق .

الوجه الثاني : من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات : وقت الابتداء ، ووقت الموت ، ووقت البعث ، والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فإنما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال : ( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) [ مريم : 15 ] وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال : ( والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) [ مريم : 33 ] .

الوجه الثالث : أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 55 ] يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا : السام عليك ، فحزن الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى ، فبعث الله جبريل عليه السلام وقال : إن كان اليهود يقولون السام عليك ، فأنا أقول من سرادقات الجلال : السلام عليك ، وأنزل قوله : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [ الأحزاب : 55 ] إلى قوله : ( وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 56 ] .

وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبد الله بن سلام قال : لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس ، فأول ما سمعت منه : " يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " .

وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه :

الأول : قالوا : تحية النصارى وضع اليد على الفم ، وتحية اليهود بعضهم لبعض الإشارة بالأصابع ، وتحية المجوس الانحناء ، وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا : حياك الله ، وللملوك أن يقولوا : أنعم صباحا ، وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها .

الثاني : أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات . ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع .

الثالث : أن الوعد بالنفع يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر ، أما الوعد بترك الضرر فإنه يكون قادرا عليه لا محالة ، والسلام يدل عليه . فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية .

التالي السابق


الخدمات العلمية