صفحة جزء
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة : القتل بالمثقل ليس بعمد محض ، بل هو خطأ وشبه عمد ، فيكون داخلا تحت هذه الآية فتجب فيه الدية والكفارة ، ولا يجب فيه القصاص . وقال الشافعي رحمه الله : أنه عمد محض يجب فيه القصاص . أما بيان أنه قتل فيدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فهو أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه وكز القبطي فقضى عليه ، ثم إن ذلك الوكز يسمى بالقتل ، بدليل أنه حكى أن القبطي قال في اليوم الثاني : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ) [ القصص : 19 ] وكان الصادر عن موسى عليه السلام بالأمس ليس إلا الوكز ، فثبت أن القبطي سماه قتلا ، وأيضا أن موسى صلوات الله عليه سماه قتلا حيث قال : ( رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ) [ القصص : 33 ] وأجمع المفسرون على أن المراد منه قتل ذلك القبطي بذلك الوكز ، وأيضا أن الله تعالى سماه قتلا حيث قال : ( وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ) [ طه : 40 ] فثبت أن الوكز قتل بقول القبطي وبقول موسى وبقول الله تعالى ، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل " فسماه قتلا ، فثبت بهذين الدليلين أنه حصل القتل ، وأما أنه عمد فالشاك فيه داخل في السفسطة فإن من ضرب رأس إنسان بحجر الرحا ، أو صلبه أو غرقه ، أو خنقه ثم قال : ما قصدت به قتله كان ذلك إما كاذبا أو مجنونا ، وإما أنه عدوان فلا ينازع فيه مسلم ، فثبت أنه قتل عمد عدوان ، فوجب أن يجب القصاص بالنص والمعقول . [ ص: 183 ] أما النص : فهو جميع الآيات الدالة على وجوب القصاص ، كقوله : ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) [ البقرة : 178 ] ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) [ المائدة : 45 ] ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) [ الإسراء : 33 ] ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) [ البقرة : 194 ] .

وأما المعقول : فهو أن المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الإهدار . قال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) [ البقرة : 179 ] وإذا كان المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الإهدار ، والإهدار من المثقل كهو في المحدد كانت الحاجة إلى شرع الزاجر في إحدى الصورتين كالحاجة إليه في الصورة الأخرى ، ولا تفاوت بين الصورتين في نفس الإهدار ، إنما التفاوت حاصل في آلة الإهدار ، والعلم الضروري حاصل بأن ذلك غير معتبر ، والكلام في الفقهيات إذا وصل إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في التحقيق لمن ترك التقليد ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل " وهو عام سواء كان السوط والعصا صغيرا أو كبيرا .

والجواب : أن قوله : " قتيل الخطأ " يدل على أنه لا بد وأن يكون معنى الخطأ حاصلا فيه ، وقد بينا أن من خنق إنسانا أو ضرب رأسه بحجر الرحا ، ثم قال : ما كنت أقصد قتله ، فإن كل عاقل ببديهة عقله يعلم أنه كاذب في هذا المقال ، فوجب حمل هذا الضرب على الضرب بالعصا الصغيرة حتى يبقى معنى الخطأ فيه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية