صفحة جزء
( تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل ) .

ثم قال تعالى : ( تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ) قال أبو عبيدة : جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر ، والعرض بسكون الراء : ما سوى الدراهم والدنانير ، وإنما سمي متاع الدنيا عرضا ؛ لأنه عارض زائل غير باق ، ومنه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضا ؛ لقلة لبثه ، فقوله : ( فعند الله مغانم كثيرة ) يعني : ثوابا كثيرا ، فنبه تعالى بتسميته عرضا على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء ، وبقوله : ( فعند الله مغانم كثيرة ) على أن ثواب الله موصوف بالدوام والبقاء ، كما قال : ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ) [الكهف : 46] .

ثم قال تعالى : ( كذلك كنتم من قبل ) وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا السلم ، وليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع ، فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوها :

الأول : أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة ، حقنت دماءكم وأموالكم من غير توقيف ، ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم ، فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم ، وأن تعتبروا ظاهر القول ، وأن لا تقولوا : إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة ؛ لأجل الخوف من السيف . هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين ، وفيه إشكال ؛ لأن لهم أن يقولوا : ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء ، لأنا آمنا عن الطواعية والاختيار ، وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف ، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر ؟ .

الوجه الثاني : قال سعيد بن جبير : المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه ، ثم من الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم ، فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة ، وهذا أيضا فيه إشكال ؛ لأن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم .

الثالث : قال مقاتل : المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول الله بكلمة : " لا إله إلا الله " فاقبلوا منهم مثل ذلك ، وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول ، والأقرب عندي أن يقال : إن من ينتقل من دين إلى دين ، ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف ، ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال ، فكأنه قيل لهم : كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ، ثم من الله عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر ، فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان ، فإن الله تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم ، ويقوي تلك الرغبة في صدورهم ، فهذا ما عندي فيه .

فمن الله عليكم

التالي السابق


الخدمات العلمية