صفحة جزء
[ ص: 33 ] ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) .

قوله تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) .

واعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضى من القول ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي -رحمه الله- : النجوى في اللغة : سر بين اثنين ، يقال : ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ، ويقال : نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى : ناجيته ، والنجوى : قد تكون مصدرا بمنزلة المناجاة ، قال تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [المجادلة : 7] . وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون ، قال تعالى : ( وإذ هم نجوى ) [الإسراء : 47] .

المسألة الثانية : قوله : ( إلا من أمر بصدقة ) ذكر النحويون في محل " من " وجوها ، وتلك الوجوه مبنية على معنى النجوى في هذه الآية ، فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب ؛ لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه ، فيكون نصبا كقوله : ( إلا أذى ) [آل عمران : 111] . ويجوز أن يكون رفعا في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس ، كقوله :


إلا اليعافير وإلا العيس

وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال : التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ، ثم حذف المضاف ، وعلى هذا التقدير يكون " من " في محل النجوى ؛ لأنه أقيم مقامه ، ويجوز فيه وجهان :

أحدهما : الخفض بدل من نجواهم ، كما تقول : ما مررت بأحد إلا زيد .

والثاني : النصب على الاستثناء ، كما تقول : ما جاءني أحد إلا زيدا ، وهذا استثناء الجنس من الجنس ، وأما إن جعلنا النجوى اسما للقوم المتناجين كان منصوبا على الاستثناء ؛ لأنه استثناء الجنس من الجنس ، ويجوز أن يكون " من " في محل الخفض من وجهين :

أحدهما : أن تجعله تبعا لكثير ، على معنى : لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة ، كقولك : لا خير في القوم إلا نفر منهم .

والثاني : أن تجعله تبعا للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد ، إن شئت أتبعت زيدا الجماعة ، وإن شئت أتبعته القوم ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة ، والمراد : لا خير فيما يتناجى فيه الناس ، ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير . ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع : الأمر بالصدقة ، والأمر بالمعروف ، والإصلاح بين الناس ، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة ؛ وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، أما إيصال الخير ؛ فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : ( إلا من أمر بصدقة ) وإما أن يكون من الخيرات الروحانية ، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله : ( أو معروف ) .

وأما إزالة الضرر فإليها [ ص: 34 ] الإشارة بقوله : ( أو إصلاح بين الناس ) فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية ، ومما يدل على صحة ما ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام : " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر أو ذكر لله " .

وقيل لسفيان الثوري : ما أشد هذا الحديث ، فقال سفيان : ألم تسمع الله يقول : ( لا خير في كثير من نجواهم ) . فهو هذا بعينه ، أما سمعت الله يقول : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [العصر : 1 ] فهو هذا بعينه .

ثم قال تعالى : ( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) والمعنى : أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة ، إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى بها لوجه الله ، ولطلب مرضاته ، فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية ، فصارت من أعظم المفاسد ؛ وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية ، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) [البينة : 5] وقوله : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [النجم : 39] ، وقوله عليه الصلاة والسلام : "إنما الأعمال بالنيات" وههنا سؤالان :

السؤال الأول : لم انتصب " ابتغاء مرضاة الله " ؟ .

والجواب : لأنه مفعول له ، والمعنى : لأنه لابتغاء مرضاة الله .

السؤال الثاني : كيف قال : ( إلا من أمر ) ، ثم قال : ( ومن يفعل ذلك ) ؟ .

والجواب : أنه ذكر الأمر بالخير ؛ ليدل به على فاعله ؛ لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين ، فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ، ويجوز أن يراد : ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل ؛ لأن الأمر أيضا فعل من الأفعال .

التالي السابق


الخدمات العلمية