صفحة جزء
( ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ) .

قوله تعالى : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ) .

[ ص: 56 ] وفي تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان :

الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلا من سعته ، وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير ؛ لكونه واسعا ، فقال : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) يعني : من كان كذلك فإنه لا بد وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة .

الثاني : أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بين أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد ؛ لأن مالك السماوات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجا إلى عمل الإنسان ، مع ما هو عليه من الضعف والقصور ، بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم .

ثم قال تعالى : ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل ، بل هو وصية الله في الأولين والآخرين .

المسألة الثانية : قوله : ( من قبلكم ) فيه وجهان :

الأول : أنه متعلق بوصينا ، يعني : ولقد وصينا من قبلكم الذين أوتوا الكتاب .

والثاني : أنه متعلق بأوتوا ، يعني : الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وصيناهم بذلك . وقوله : ( وإياكم ) بالعطف على ( الذين أوتوا الكتاب ) والكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية ، والمراد اليهود والنصارى .

المسألة الثالثة : قوله : ( أن اتقوا الله ) كقولك : أمرتك الخير ، قال الكسائي : يقال أوصيتك أن افعل كذا ، وأن تفعل كذا ، ويقال : ألم آمرك أن ائت زيدا ، وأن تأتي زيدا ، قال تعالى : ( أمرت أن أكون أول من أسلم ) [الأنعام : 14] وقال : ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ) [النمل : 91] .

ثم قال تعالى : ( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ) ، قوله : ( وإن تكفروا ) عطف على قوله : ( اتقوا الله ) والمعنى : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض . وفيه وجهان :

الأول : أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها ، فحق كل عاقل أن يكون منقادا لأوامره ونواهيه ، يرجو ثوابه ويخاف عقابه .

والثاني : أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سماواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه ، وكان مع ذلك غنيا عن خلقهم وعن عبادتهم ، ومستحقا لأن يحمد ؛ لكثرة نعمه ، وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود ، سواء حمدوه أو لم يحمدوه .

ثم قال تعالى : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) .

فإن قيل : ما الفائدة في تكرير قوله : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) ؟ .

قلنا : إنه تعالى ذكر هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور :

فأولها : أنه تعالى قال : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) ، والمراد منه : كونه تعالى جوادا متفضلا ، فذكر عقيبه قوله : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم .

وثانيها : قال : ( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ) ، والمراد منه : أنه تعالى منزه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، فلا يزداد جلاله بالطاعات ، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات ، فذكر عقيبه قوله : ( فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ) [ ص: 57 ] والغرض منه تقرير كونه غنيا لذاته عن الكل .

وثالثها : قال : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ) والمراد منه : أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد ، فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية ، وعلى أن يوجد قوما آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه ، فالغرض ههنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادرا على جميع المقدورات ، وإذا كان الدليل الواحد دليلا على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ؛ ليستدل به على أحد تلك المدلولات ، ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني ، ثم يذكره ثالثا ليستدل به على المدلول الثالث .

وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ؛ لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى ، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال .

وأيضا فإذا أعدته ثلاث مرات ، وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذ ؛ لكون تخليق السماوات والأرض دالا على أسرار شريفة ، ومطالب جليلة ، فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها ، والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ، ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله ، وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده ، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال .

وقوله : ( وكان الله على ذلك قديرا ) معناه : أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بالقدرة على جميع المقدورات ، فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل .

ثم قال تعالى : ( من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ) والمعنى : أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون ؛ وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة ، ولو كان عاقلا لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع ؟ .

فإن قيل : كيف دخل الفاء في جواب الشرط ، وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل ؟ .

قلنا : تقرير الكلام : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده الله تعالى ، وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط .

ثم قال : ( وكان الله سميعا بصيرا ) يعني : يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ، ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة ، وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال .

التالي السابق


الخدمات العلمية