ثم قال تعالى : ( 
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا   ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : مذبذبين ، إما حال من قوله : ( 
يراءون   ) أو من قوله ( 
ولا يذكرون الله إلا قليلا   ) ويحتمل أن يكون منصوبا على الذم . 
المسألة الثانية : مذبذبين : أي : متحيرين ، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين ، أي : يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه . 
واعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي ، فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب ؛ لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل ، وإذا كان الفعل تبعا للداعي ، والداعي تبعا للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في   
[ ص: 68 ] الميل والرغبة ، وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد . أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية ، واكتساب السعادات الروحانية ، وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا راسخا ، فلهذا المعنى 
وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال : ( 
يثبت الله الذين آمنوا   ) [إبراهيم : 27] وقال ( 
ألا بذكر الله تطمئن القلوب   ) [الرعد : 28] وقال : ( 
ياأيتها النفس المطمئنة   ) [الفجر : 26] . 
المسألة الثالثة : قرأ 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    ( مذبذبين ) بكسر الذال الثانية ، والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم ، بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى ، وفي مصحف 
 nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود    : متذبذبين ، وعن 
أبي جعفر    : مدبدبين بالدال المهملة ، وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى ، فلا يبقون على دبة واحدة ، والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب . 
المسألة الرابعة : قوله : ( 
بين ذلك   ) أي : بين الكفر والإيمان ، أو بين الكافرين والمؤمنين ، وكلمة ( ذلك ) يشار به إلى الجماعة ، وقد تقدم تقريره في تفسير قوله : ( 
عوان بين ذلك   ) [البقرة : 68] وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله : ( 
الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين   ) وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان ؛ قال 
قتادة    : معنى الآية 
ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك   . 
المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن 
الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا : إن قوله : ( 
مذبذبين   ) يقتضي فاعلا قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين ، وذلك ليس باختيار العبد ، فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة ، فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلا ، ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا ، وإذا كانت تلك الذبذبة لا بد لها من فاعل ، وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى ، فثبت أن 
الكل من الله تعالى   . 
فإن قيل : قوله تعالى : ( 
لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء   ) يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكافرين ، وذلك يقتضي أنه تعالى ما ذمهم على طريقة الكفار وإنه غير جائز . 
قلنا : إن طريقة الكفار وإن كانت خبيثة إلا أن طريقة النفاق أخبث منها ، ولذلك فإنه تعالى ذم الكفار في أول سورة البقرة في آيتين ، وذم المنافقين في بضع عشرة آية ، وما ذاك إلا أن 
طريقة النفاق أخبث من طريقة الكفار ، فهو تعالى إنما ذمهم لا لأنهم تركوا الكفر ، بل لأنهم عدلوا عنه إلى ما هو أخبث منه . 
ثم قال تعالى : ( 
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا   ) واحتج أصحابنا بهذه الآية على قولهم من وجهين : 
الأول : أن ذكر هذا الكلام عقيب قوله : ( 
مذبذبين   ) يدل على أن تلك الذبذبة من الله تعالى ، وإلا لم يتصل هذا الكلام بما قبله . 
والثاني : أنه تصريح بأن الله تعالى أضله عن الدين . قالت 
المعتزلة    : معنى هذا الإضلال سلب الألطاف ، أو هو عبارة عن حكم الله عليه بالضلال ، أو هو عبارة عن أن الله تعالى يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ، وهذه الوجوه قد تكلمنا عليها مرارا .