صفحة جزء
[ ص: 69 ] ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا ) .

قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) .

اعلم أنه تعالى لما ذم المنافقين بأنهم مرة إلى الكفرة ومرة إلى المسلمين من غير أن يستقروا مع أحد الفريقين ، نهى المسلمين في هذه الآية أن يفعلوا مثل فعلهم فقال : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) والسبب فيه أن الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع وحلف ومودة ، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من نتولى ؟ فقال : المهاجرين ، فنزلت هذه الآية .

والوجه الثاني : ما قاله القفال - رحمه الله - : وهو أن هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين ، يقول : قد بينت لكم أخلاق المنافقين ومذاهبهم فلا تتخذوا منهم أولياء .

ثم قال تعالى : ( أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) .

فإن حملنا الآية الأولى على أنه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار كان معنى الآية أتريدون أن تجعلوا لله سلطانا مبينا على كونكم منافقين ، والمراد : أتريدون أن تجعلوا لأهل دين الله وهم الرسول وأمته ، وإن حملنا الآية الأولى على المنافقين كان المعنى : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم للمنافقين .

ثم قال تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الليث : الدرك أقصى قعر الشيء كالبحر ونحوه ، فعلى هذا المراد بالدرك الأسفل أقصى قعر جهنم ، وأصل هذا من الإدراك بمعنى اللحوق ، ومنه إدراك الطعام وإدراك الغلام ، فالدرك ما يلحق به من الطبقة ، وظاهره أن جهنم طبقات ، والظاهر أن أشدها أسفلها . قال الضحاك : الدرج إذا كان بعضها فوق بعض ، والدرك إذا كان بعضها أسفل من بعض .

المسألة الثانية : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( في الدرك ) بسكون الراء والباقون بفتحها ، قال الزجاج : هما لغتان مثل الشمع والشمع ، إلا أن الاختيار فتح الراء لأنه أكثر استعمالا ، قال أبو حاتم : جمع الدرك أدراك كقولهم : جمل وأجمال ، وفرس وأفراس ، وجمع الدرك أدرك مثل فلس وأفلس وكلب وأكلب . المسألة الثالثة : قال ابن الأنباري : إنه تعالى قال في صفة المنافقين إنهم في الدرك الأسفل وقال في آل فرعون ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) [غافر : 46] فأيهما أشد عذابا ، المنافقون أم آل فرعون ؟ وأجاب بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل ، وقد اجتمع فيه الفريقان .

المسألة الرابعة : لما كان المنافق أشد عذابا من الكافر لأنه مثله في الكفر ، وضم إليه نوع آخر من [ ص: 70 ] الكفر ، وهو الاستهزاء بالإسلام وبأهله ، وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين ، فلهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار .

ثم قال تعالى : ( ولن تجد لهم نصيرا ) وهذا تهديد لهم . واحتج أصحابنا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل الصلاة ، قالوا : إنه تعالى خص المنافقين بهذا التهديد ، ولو كان ذلك حاصلا في حق غير المنافقين لم يكن ذلك زجرا عن النفاق من حيث أنه نفاق ، وليس هذا استدلالا بدليل الخطاب ، بل وجه الاستدلال فيه أنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق ، فلو حصل ذلك مع عدمه لم يبق زجرا عنه من حيث إنه نفاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية