صفحة جزء
( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) .

قوله تعالى : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) .

اعلم أن هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود ، فإنهم قالوا : إن كنت رسولا من عند الله فأتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح . وقيل : طلبوا أن ينزل عليهم كتابا من السماء إلى فلان وكتابا إلى فلان بأنك رسول الله وقيل : كتابا نعاينه حين ينزل ، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت وحصلت ، فكان طلب الزيادة من باب التعنت .

ثم قال تعالى : ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى - عليه السلام - وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت .

واعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت ، كأنه قيل : إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر ، بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة ، وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد .

ثم قال تعالى : ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) وهذه [ ص: 76 ] القصة قد فسرناها في سورة البقرة ، واستدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك .

ثم قال تعالى : ( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ) والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم ، فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة ، بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين ، والمراد بالبينات من قوله : ( من بعد ما جاءتهم البينات ) أمور :

أحدها : أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات ، فإن الصاعقة وإن كانت شيئا واحدا إلا أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه ، وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى - عليه السلام - في دعوى النبوة .

وثانيها : أن المراد بالبينات : إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعدما أماتهم .

وثالثها : أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى - عليه السلام - التي كان يظهرها في زمان فرعون ، وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة ، والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلا عنادا ولجاجا ، فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة ، ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل ، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق .

ثم قال : ( فعفونا عن ذلك ) يعني لم نستأصل عبدة العجل ( وآتينا موسى سلطانا مبينا ) يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه ، وفيه بشارة للرسول - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التنبيه ، والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم ، ثم حكى تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم :

فأحدها : أنه تعالى رفع فوقهم الطور بميثاقهم ، وفيه وجوه :

الأول : أنهم أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين ، ثم رجعوا عنه وهموا بالرجوع ، فرفع الله فوقهم الطور حتى يخافوا فلا ينقضوا الميثاق .

الثاني : أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله الجبل فوقهم حتى قبلوا ، وصار المعنى : ورفعنا فوقهم الطور لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدين .

الثالث : أنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله يعذبهم بأي نوع من أنواع العذاب أراد ، فلما هموا بترك الدين أظل الله الطور عليهم وهو المراد من قوله : ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ) .

وثانيها : قوله : ( وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ) ومضى بيانه في سورة البقرة .

وثالثها : قوله : ( وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ( لا تعدوا في السبت ) ، فيه وجهان :

الأول : لا تعدوا باقتناص السمك فيه ، قال الواحدي : يقال عدا عليه أشد العداء والعدو والعدوان ، أي : ظلمه وجاوز الحد ، ومنه قوله : ( فيسبوا الله عدوا ) [الأنعام : 108] .

الثاني : لا تعدوا في السبت من العدو بمعنى الحضر ، والمراد : النهي عن العمل والكسب يوم السبت ، كأنه قال لهم : اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق .

المسألة الثانية : قرأ نافع : " لا تعدوا " ساكنة العين مشددة الدال ، وأراد : لا تعتدوا ، وحجته قوله : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) [البقرة : 65] فجاء في هذه القصة بعينها افتعلوا ، ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهما ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر ، وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا [ ص: 77 ] كان الثاني منهما مدغما ولم يكن الأول حرف لين نحو دابة وشابة ، وقيل لهم ، ويقولون : إن المد يصير عوضا عن الحركة ، وروى ورش عن نافع " لا تعدوا " بفتح العين وتشديد الدال ، وذلك لأنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين ، والباقون ( تعدوا ) بضم الدال وسكون العين حقيقة .

المسألة الثالثة : قال القفال : الميثاق الغليظ هو العهد المؤكد غاية التوكيد ، وذلك بين فيما يدعونه من التوراة .

التالي السابق


الخدمات العلمية