صفحة جزء
لنا وجوه :

الأول : أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة في الصلاة ، فوجب أن يجب علينا ذلك ؛ لقوله تعالى : ( واتبعوه ) [ الأعراف : 158 ] ؛ ولقوله : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) [ النور : 63 ] ولقوله تعالى : ( فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] ويا للعجب من أبي حنيفة أنه تمسك في وجوب مسح الناصية بخبر واحد ، وذلك ما رواه المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى سباطة قوم ، فبال وتوضأ ومسح على ناصيته وخفيه ، في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على الناصية ، فجعل ذلك القدر من المسح شرطا لصحة الصلاة ، وهاهنا نقل أهل العلم نقلا متواترا أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب طول عمره على قراءة الفاتحة ، ثم قال : إن صحة الصلاة غير موقوفة عليها ، وهذا من العجائب .

الحجة الثانية : قوله تعالى : ( أقيموا الصلاة ) [ البقرة : 43 ] والصلاة لفظة مفردة محلاة بالألف واللام ، فيكون المراد منها المعهود السابق ، وليس عند المسلمين معهود سابق من لفظ الصلاة إلا الأعمال التي كان [ ص: 157 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها : وإذا كان كذلك كان قوله : " أقيموا الصلاة " جاريا مجرى قوله : " أقيموا الصلاة " التي كان يأتي بها الرسول والتي أتى بها الرسول - عليه الصلاة والسلام - هي الصلاة المشتملة على الفاتحة ، فيكون قوله : ( أقيموا الصلاة ) أمرا بقراءة الفاتحة ، وظاهر الأمر الوجوب ، ثم إن هذه اللفظة تكررت في القرآن أكثر من مائة مرة ، فكان ذلك دليلا قاطعا على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة .

الحجة الثالثة : أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدل عليه أيضا ما روي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يستفتحون القراءة بـ ( الحمد لله رب العالمين ) ، وإذا ثبت هذا وجب أن يجب علينا ذلك ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ؛ ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، والعجب من أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تمسك في مسألة طلاق الفار بأثر عثمان ، مع أن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير كانا يخالفانه ، ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرث ، فلم لم يتمسك بعمل كل الصحابة على سبيل الإطباق والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة مع أن هذا القول على وفق القرآن والأخبار والمعقول ؟

الحجة الرابعة : أن الأمة وإن اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا ؛ لكنهم اتفقوا عليه في العمل ، فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في المشرق والمغرب إلا ويقرأ الفاتحة في الصلاة ، إذا ثبت هذا فنقول : إن من صلى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركا سبيل المؤمنين ، فيدخل تحت قوله : " ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " [ النساء : 115 ] فإن قالوا : إن الذين اعتقدوا أنه لا يجب قراءتها قرءوها لا على اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد الندبية ، فلم يحصل الإجماع على وجوب قراءتها ، فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بينا إطباق الكل على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يأت بالقراءة كان تاركا طريقة المؤمنين في هذا العمل ، فدخل تحت الوعيد ، وهذا القدر يكفينا في الدليل ، ولا حاجة بنا في تقرير هذا الدليل إلى ادعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب .

الحجة الخامسة : الحديث المشهور ، وهو أنه - سبحانه وتعالى - قال : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، يقول الله - تعالى - : حمدني عبدي . . . إلى آخر الحديث ، وجه الاستدلال أنه تعالى حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ، ثم بين أن هذا التنصيف لم يحصل إلا بسبب آيات هذه السورة ، فنقول : الصلاة لا تنفك عن هذا التنصيف ، وهذا التنصيف لا يحصل إلا بسبب هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا : قراءة الفاتحة شرط لصحة الصلاة .

الحجة السادسة : قوله عليه الصلاة والسلام : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، قالوا : حرف النفي دخل على الصلاة ، وذلك غير ممكن ، فلا بد من صرفه إلى حكم من أحكام الصلاة ، وليس صرفه إلى الصحة أولى من صرفه إلى الكمال ، والجواب من وجوه :

الأول : أنه جاء في بعض الروايات : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وعلى هذه الرواية فالنفي ما دخل على الصلاة ، وإنما دخل على حصولها للرجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها وخروجه عن عهدة التكليف بسببها ، وعلى هذا التقدير فإنه يمكن إجراء النفي على ظاهره .

الثاني : من اعتقد أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة ، فعند عدم قراءة الفاتحة لا توجد [ ص: 158 ] ماهية الصلاة ؛ لأن الماهية يمتنع حصولها حال عدم بعض أجزائها ، وإذا ثبت هذا فقولهم إنه لا يمكن إدخال حرف النفي على مسمى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفاتحة ليست جزءا من الصلاة ، وهذا هو أول المسألة ، فثبت أن على قولنا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره .

الثالث : هب أنه لا يمكن إجراء هذا اللفظ على ظاهره ، إلا أنهم أجمعوا على أنه متى تعذر العمل بالحقيقة وحصل للحقيقة مجازان أحدهما أقرب إلى الحقيقة والثاني أبعد - فإنه يجب حمل اللفظ على المجاز الأقرب ، إذا ثبت هذا فنقول : المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحا أتم من المشابهة بين المعدوم وبين الموجود الذي يكون صحيحا لكنه لا يكون كاملا ، فكان حمل اللفظ على نفي الصحة أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية