(
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق )
قوله تعالى : (
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ) .
اعلم أنه تعالى قال في أول السورة : (
أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم ، فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم ، وهي أحد عشر نوعا :
الأول : الميتة : وكانوا
[ ص: 105 ] يقولون : إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله .
واعلم أن
تحريم الميتة موافق لما في العقول ، لأن الدم جوهر لطيف جدا ، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة .
والثاني :
الدم : قال صاحب " الكشاف " : كانوا يملئون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف ، فالله تعالى حرم ذلك عليهم .
والثالث :
لحم الخنزير ، قال أهل العلم : الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي ، فلا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء ، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات ، فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية ، وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة ، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق ، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان .
الرابع :
ما أهل لغير الله به ، والإهلال رفع الصوت ، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به ، ومنه استهل الصبي وهو صراخه إذا ولد ، وكانوا يقولون عند الذبح : باسم اللات والعزى فحرم الله تعالى ذلك .
والخامس : المنخنقة ، يقال : خنقه فاختنق ، والخنق والاختناق انعصار الحلق .
واعلم أن
المنخنقة على وجوه :
منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها ، ومنها ما يخنق بحبل الصائد ، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت ، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام .
واعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة ، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه .
والسادس :
الموقوذة ، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال : وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت ،
ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات ، وهي أيضا في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فإنها ماتت ولم يسل دمها .
السابع : المتردية ، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك . قال تعالى : (
وما يغني عنه ماله إذا تردى ) [الليل : 11] أي : وقع في النار ، ويقال : فلان تردى من السطح ،
فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت ، وهذا أيضا من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم ، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم .
والثامن :
النطيحة ، وهي المنطوحة إلى أن ماتت ، وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما ، وهذا أيضا داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم .
واعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع ، أعني : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة ، كأنه قيل : حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة ، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس ، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل .
فإن قيل : لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة ، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة ، كقولهم : كف خضيب ، ولحية دهين ، وعين كحيل .
قلنا : إنما تحذف الهاء من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها ، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف ، تقول : رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة ، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة .