صفحة جزء
النوع الحادي عشر : قوله تعالى : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) قال القفال - رحمه الله - : ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقا لما كانوا فعلوه في المطاعم ، وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت ، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك ، وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في الآية قولان :

الأول : كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وكانوا قد كتبوا على بعضها : أمرني ربي ، وعلى بعضها : نهاني ربي ، وتركوا بعضها خاليا عن الكتابة ، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل ، وإن خرج النهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى ، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح .

الثاني : قال المؤرج وكثير من أهل اللغة : الاستقسام هنا هو الميسر المنهي عنه ، والأزلام قداح الميسر ، والقول الأول اختيار الجمهور .

المسألة الثانية : الأزلام القداح واحدها زلم ، ذكره الأخفش . وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي : سويت . ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفا قليل العلائق ، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته ، وما أحسن ما زلم سهمه ، أي : سواه ، ويقال لقوائم البقر أزلام ، شبهت بالقداح للطافتها .

ثم قال تعالى : ( ذلكم فسق ) وفيه وجهان :

الأول : أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصرا عليه .

والثاني : أن يكون راجعا إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم ، فمن خالف فيه رادا على الله تعالى كفر .

فإن قيل : على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقا ؟ أليس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل ، وهذا أيضا من جملة الفأل فلم صار فسقا ؟

قلنا : قال الواحدي : إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب ، وذلك حرام لقوله تعالى : ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) [لقمان : 34] وقال : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) [النمل : 65] وروى أبو الدرداء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة " .

ولقائل أن يقول : لو كان طلب الظن بناء على الأمارات المتعارفة طلبا لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم [ ص: 108 ] التعبير غيبا أو كفرا لأنه طلب للغيب ، ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفرا لأنه طلب للغيب ، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا ، ومعلوم أن ذلك كله باطل ، وأيضا فالآيات إنما وردت في العلم ، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علما ، وإنما يستفيد من ذلك ظنا ضعيفا ، فلم يكن ذلك داخلا تحت هذه الآيات . وقال قوم آخرون إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم ، فلهذا السبب كان ذلك فسقا وكفرا ، وهذا القول عندي أولى وأقرب .

التالي السابق


الخدمات العلمية