صفحة جزء
الفائدة التاسعة : لا شك أن الوجود خير من العدم ، والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه ، ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك ، وإذا ثبت هذا فنقول وجود كل شيء ما سوى الله تعالى فإنه حصل بإيجاد الله وجوده وفضله وإحسانه ، وقد ثبت أن الوجود نعمة ، فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح والأجسام والعلويات والسفليات إلا ولله عليه نعمة ورحمة وإحسان ، والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر ، فإذا قال العبد : الحمد لله فليس مراده : الحمد لله على النعم الواصلة إلي ، بل المراد : الحمد لله على النعم الصادرة منه ، وقد بينا أن إنعامه واصل إلى كل ما سواه ، فإذا قال العبد : الحمد لله ، كان معناه : الحمد لله على إنعامه على كل مخلوق خلقه ، وعلى كل محدث أحدثه من نور ، وظلمة ، وسكون ، وحركة ، وعرش ، وكرسي ، وجني ، وإنسي ، وذات ، وصفة ، وجسم ، وعرض ، إلى أبد الآباد ودهر الداهرين ، وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لأحد معك فيها شركة ومنازعة .

الفائدة العاشرة : لقائل أن يقول : التسبيح مقدم على التحميد ؛ لأنه يقال : سبحان الله والحمد لله فما السبب هاهنا في وقوع البداية بالتحميد ؟ والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن ، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات ، والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه [ ص: 183 ] محسنا إلى الخلق منعما عليهم رحيما بهم ، فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاما ، والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام ؛ فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى ، وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية ، وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن الله تعالى لا يكون محسنا بالعباد إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد ، وإلا إذا كان قادرا على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ، وإلا إذا كان غنيا عن كل الحاجات ، إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد ، فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص والآفات ، فثبت أن الابتداء بقوله : الحمد لله أولى من الابتداء بقوله : سبحان الله .

الفائدة الحادية عشرة : الحمد لله له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل ، أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرا على النعم المتقدمة ، وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل ؛ لقوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) [ إبراهيم : 7 ] والعقل أيضا يدل عليه ، وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة والقيام بالطاعة ، ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم الله تعالى ، وأبواب معرفته ومحبته ، وذلك من أعظم النعم ؛ فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران ، وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان ، فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن الله تعالى ؛ وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة الله تعالى ، ولما كان لا نهاية لدرجات الله فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة الله ، ولا مفتاح لها إلا قولنا : الحمد لله ؛ فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة .

الفائدة الثانية عشرة : الحمد لله كلمة شريفة جليلة لكن لا بد من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها ، قيل للسري السقطي : كيف يجب الإتيان بالطاعة ؟ قال : أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر الله عن قولي مرة واحدة : الحمد لله . فقيل كيف ذلك ؟ قال : وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور ، فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت : الحمد لله ، وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس ، وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك ، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي : الحمد لله ، فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها ، ثم إن نعم الله على العبد كثيرة ، إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين : نعم الدنيا ، ونعم الدين ، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا ؛ لوجوه كثيرة ، وقولنا : الحمد لله كلمة جليلة شريفة ، فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا ، بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين ، ثم نعم الدين قسمان : أعمال الجوارح ، وأعمال القلوب ، والقسم الثاني أشرف ، ثم نعم الدنيا قسمان : تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم ، وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم ، والقسم الثاني أشرف ، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا : الحمد لله موافقا لموضعه لائقا بسببه .

الفائدة الثالثة عشرة : أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله : الحمد لله ، وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا : الحمد لله ، أما الأول فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال : الحمد لله رب العالمين ، وأما الثاني فهو قوله تعالى : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] ففاتحة العالم مبنية على الحمد [ ص: 184 ] وخاتمته مبنية على الحمد ، فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقرونا بهذه الكلمة ، فإن الإنسان عالم صغير ، فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير .

الفائدة الرابعة عشرة : من الناس من قال : تقدير الكلام : قولوا : الحمد لله ، وهذا عندي ضعيف ؛ لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام ، وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه :

الأول : أن قوله : الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقا له وملكا له ، وهذا كلام تام في نفسه فلا حاجة إلى الإضمار .

الثاني : أن قوله : الحمد لله يدل على كونه تعالى مستحقا للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه ؛ لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير .

الثالث : ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده : اعمل كذا وكذا ؛ لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم ، بل يقول : إن كذا وكذا يجب أن يفعل ، ثم إذا كان الولد كريما فإنه يجيب ويطيعه ، وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد ، فيكون إثمه أقل ، فكذلك هاهنا قال الله تعالى : الحمد لله ، فمن كان مطيعا حمده ، ومن كان عاصيا إثمه أقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية