المسألة الثالثة : أنه تعالى لما بين 
أن أهل الكتاب  ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا ، بين أن هذا الحكم عام في الكل ، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، وذلك ; لأن الإنسان له قوتان : القوة النظرية ، والقوة العملية ، أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق ، وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير ، وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى ، وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر ، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر ، 
وأفضل الخيرات في الأعمال أمران : المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود ، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام : 
التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ثم بين تعالى أن 
كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن ، والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل ، والحزن بالماضي ، فقال : ( 
لا خوف عليهم   ) بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة : ( 
ولا هم يحزنون   ) بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا ; لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا ، ومن كان كذلك فإنه لا يحزن بسبب طيبات الدنيا .  
[ ص: 46 ] فإن قيل : كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوما عن أهوال القيامة ؟ 
والجواب من وجهين : 
الأول : أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح ، ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركا لجميع المعاصي . 
والثاني : أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به . 
المسألة الرابعة : قالت 
المعتزلة    : إنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح ، والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط ، فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن ، وذلك يمنع من 
العفو عن صاحب الكبيرة   . 
والجواب : أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن الله يعفو عنه لا محالة ، فكان الخوف والحزن حاصلا قبل إظهار العفو . 
المسألة الخامسة : أنه تعالى قال في أول الآية : ( 
إن الذين آمنوا   ) ثم قال في آخر الآية : ( 
من آمن بالله   ) وفي هذا التكرير فائدتان : 
الأولى : أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون ، فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن . 
الفائدة الثانية : أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان ، والإيمان يدخل تحته أقسام ، وأشرفها الإيمان بالله واليوم الآخر ، فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان ، وقد ذكرنا وجوها كثيرة في قوله : ( 
ذلك بأن الذين كفروا   ) وكلها صالحة لهذا الموضع . 
المسألة السادسة : الراجع إلى اسم ( إن ) محذوف ، والتقدير : من آمن منهم ، إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوما ، والله أعلم .