صفحة جزء
الفصل السادس

في قوله وإياك نستعين

اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، ويدل عليه وجوه من العقل والنقل ، أما العقل فمن وجوه :

الأول : أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية ، فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان ، وذلك المرجح ليس من العبد ، وإلا لعاد في الطلب ، فهو من الله تعالى ، فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانة الله .

الثاني : أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين ، وما ذاك المعين إلا الله تعالى ، لأن ذلك المعين لو كان بشرا أو ملكا لعاد الطلب فيه .

الثالث : أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به ، ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه ، ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل ، فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى ، ولا معنى للإعانة إلا ذلك .

وأما النقل فيدل عليه آيات : أولاها : قوله وإياك نستعين . وثانيتها : قوله ( استعينوا بالله ) [ الأعراف : 128 ] ، وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية : أما الجبرية فقالوا : لو كان العبد مستقلا بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة ، وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكنا من أصل الفعل ، فتبطل الإعانة من الغير ، أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة .

وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة ، فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة وإزالة الداعية الصارفة . ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد :

الفائدة الأولى : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين ، فما الحكمة فيه ؟ الجواب من وجوه :

الأول : كأن المصلي يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها ، فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها .

الثاني : كأن الإنسان يقول : يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلبا يفر مني ، فأستعين [ ص: 205 ] بك في إحضاره وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ، فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله .

الثالث : لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا ميكائيل بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام ؛ لأنه لما قيد نمروذ رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له : هل لك من حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، فقال : سله ، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب ، وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير ، وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير ، ويدي فلا أحركهما ، وعيني فلا أنظر بهما ، وأذني فلا أسمع بهما ، ولساني فلا أتكلم به ، وكان الخليل مشرفا على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم ، فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معينا فكذلك لا أريد معينا غيرك ، فإياك نعبد وإياك نستعين ، كأنه تعالى يقول : أتيت بفعل الخليل وزدت عليه ، فنحن نزيد أيضا في الجزاء لأنا ثمت قلنا : ( يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) [ الأنبياء : 69 ] وأما أنت فقد نجيناك من النار ، وأوصلناك إلى الجنة ، وزدناك سماع الكلام القديم ، ورؤية الموجود القديم ، وكما أنا قلنا لنار نمروذ " يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " فكذلك تقول لك نار جهنم : جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي .

الرابع : إياك نستعين : أي : لا أستعين بغيرك ، وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة ، فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك .

الوجه الخامس : قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى ، وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد ، بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب ، وإفناء تلك النخوة والكبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية