صفحة جزء
الفصل الثامن

في تفسير قوله : صراط الذين أنعمت عليهم ، وفيه فوائد

الفائدة الأولى : في حد النعمة ، وقد اختلف فيها ، فمنهم من قال : إنها عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، ومنهم من يقول : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، قالوا وإنما زدنا هذا القيد لأن النعمة يستحق بها الشكر ، وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر ، والحق أن هذا القيد غير معتبر ، لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا ، لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة الذنب والعقاب ، فأي امتناع في اجتماعهما ؟ ألا ترى أن الفاسق يستحق بإنعامه الشكر ، والذم بمعصية الله ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك .

ولنرجع إلى تفسير الحد المذكور فنقول : أما قولنا : " المنفعة " فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة ، وقولنا : " المفعولة على جهة الإحسان " لأنه لو كان نفعا حقا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمة ، وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها .

إذا عرفت حد النعمة فيتفرع عليه فروع :

الفرع الأول : اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] ثم إن النعمة على ثلاثة أقسام :

أحدها : نعمة تفرد الله بإيجادها ، نحو أن خلق ورزق .

وثانيها : نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر ، وفي الحقيقة فهي أيضا إنما وصلت من الله تعالى ، وذلك لأنه تعالى هو الخالق لتلك النعمة ، والخالق لذلك المنعم ، والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلا أنه تعالى لما أجرى تلك النعمة على يد ذلك العبد كان ذلك العبد مشكورا ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال : ( أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) [ لقمان : 14 ] فبدأ بنفسه تنبيها على أن إنعام الخلق لا يتم إلا بإنعام الله .

وثالثها : نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضا من الله تعالى ؛ لأنه لولا أن الله سبحانه وتعالى وفقنا للطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار عنا وإلا لما وصلنا إلى شيء منها ، فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى .

الفرع الثاني : أن أول نعم الله على العبيد هو أن خلقهم أحياء ، ويدل عليه العقل والنقل ، أما العقل فهو أن الشيء لا يكون نعمة إلا إذا كان بحيث يمكن الانتفاع به ، ولا يمكن الانتفاع به إلا عند حصول [ ص: 209 ] الحياة ، فإن الجماد والميت لا يمكنه أن ينتفع بشيء ، فثبت أن أصل جميع النعم هو الحياة ، وأما النقل فهو أنه تعالى قال : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] ثم قال عقيبه : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ] فبدأ بذكر الحياة وثنى بذكر الأشياء التي ينتفع بها ، وذلك يدل على أن أصل جميع النعم هو الحياة .

الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل لله تعالى نعمة على الكافر أم لا ؟ فقال بعض أصحابنا : ليس لله تعالى على الكافر نعمة ، وقالت المعتزلة : لله على الكافر نعمة دينية ونعمة دنيوية . واحتج الأصحاب على صحة قولهم بالقرآن والمعقول : أما القرآن فآيات . إحداها : قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمة لكانوا داخلين تحت قوله تعالى : ( أنعمت عليهم ) ولو كان ذلك لكان قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) طلبا لصراط الكفار ، وذلك باطل ، فثبت بهذه الآية أنه ليس لله نعمة على الكفار ، فإن قالوا : إن قوله " الصراط " يدفع ذلك ، قلنا : إن قوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) بدل من قوله : ( الصراط المستقيم ) فكان التقدير اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم ، وحينئذ يعود المحذور المذكور .

والآية الثانية : قوله تعالى : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ) [ آل عمران : 178 ] وأما المعقول فهو أن نعم الدنيا في مقابلة عذاب الآخرة على الدوام قليلة كالقطرة في البحر ، ومثل هذا لا يكون نعمة ، بدليل أن من جعل السم في الحلواء لم يعد النفع الحاصل منه نعمة لأجل أن ذلك النفع حقير في مقابلة ذلك الضرر الكثير ، فكذا ههنا .

وأما الذين قالوا إن لله على الكافر نعما كثيرة فقد احتجوا بآيات :

إحداها : قوله تعالى : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) [ البقرة 21 - 22 ] فنبه على أنه يجب على الكل طاعة الله لمكان هذه النعم العظيمة .

وثانيها : قوله : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ) [ البقرة : 28 ] ذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم .

وثالثها : قوله تعالى : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) [ البقرة : 40 ] .

ورابعها : قوله تعالى : ( وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] وقول إبليس : ( ولا تجد أكثرهم شاكرين ) [ الأعراف : 17 ] ولو لم تحصل النعم لم يلزم الشكر ، ولم يلزم من عدم إقدامهم على الشكر محذور ؛ لأن الشكر لا يمكن إلا عند حصول النعمة .

الفائدة الثانية : قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقدير الآية : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم فقال : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ) الآية [ النساء : 69 ] ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقين ، ولو كان أبو بكر ظالما لما جاز الاقتداء به ، فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه .

الفائدة الثالثة : قوله ( أنعمت عليهم ) يتناول كل من كان لله عليه نعمة وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا أو نعمة الدين ، ولما بطل الأول ثبت أن المراد منه نعمة الدين ، فنقول : كل نعمة [ ص: 210 ] دينية سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأما النعمة التي هي الإيمان فيمكن حصولها خاليا عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدل على أن المراد من قوله : ( أنعمت عليهم ) هو نعمة الإيمان ، فرجع حاصل القول في قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل فنقول : يتفرع عليه أحكام :

الحكم الأول : أنه لما ثبت أن المراد من هذه النعمة نعمة الإيمان ، ولفظ الآية صريح في أن الله تعالى هو المنعم بهذه النعمة ؛ ثبت أن خالق الإيمان والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة ، ولأن الإيمان أعظم النعم ، فلو كان فاعله هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله ، ولو كان كذلك لما حسن من الله أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .

الحكم الثاني : يجب أن لا يبقى المؤمن مخلدا في النار ، لأن قوله : ( أنعمت عليهم ) مذكور في معرض التعظيم لهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العقاب المؤبد لكان قليل الفائدة فما كان يحسن من الله تعالى ذكره في معرض التعظيم .

الحكم الثالث : دلت الآية على أنه لا يجب على الله رعاية الصلاح والأصلح في الدين ، لأنه لو كان الإرشاد واجبا على الله لم يكن ذلك إنعاما ؛ لأن أداء الواجب لا يكون إنعاما ، وحيث سماه الله تعالى إنعاما علمنا أنه غير واجب .

الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام هو أن الله تعالى أقدر المكلف عليه وأرشده إليه وأزاح أعذاره وعلله عنه ؛ لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار ، فلما خص الله تعالى بعض المكلفين بهذا الإنعام مع أن هذا الإقدار وإزاحة العلل عام في حق الكل علمنا أن المراد من الإنعام ليس هو الإقدار عليه وإزاحة الموانع عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية