صفحة جزء
( ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) .

ثم قال تعالى : ( ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) واعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله : ( أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) أتبعه بالتكليف بقوله : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) يعني أنه كان مكلفا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون [ ص: 86 ] وبما تكتمون ، فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب ، وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم .

ثم قال تعالى : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) .

اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله : ( اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم ) ثم أتبعه بالتكليف بقوله : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله : ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان ، أحدهما : الذي يكون جسمانيا ، وهو ظاهر لكل أحد .

والثاني : الذي يكون روحانيا ، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية ، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى ، وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذرا عند أرباب الطباع السليمة ، فكذلك الأرواح الموصوفة بالجهل بالله والإعراض عن طاعة الله تعالى تصير مستقذرة عند الأرواح الكاملة المقدسة .

وأما الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى ، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية ، مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة ، وكما أن الخبيث والطيب في عالم الجسمانيات لا يستويان ، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان ، بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد ؛ لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل ، ومنفعته طيبة مختصرة ، وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية ، وطيب الطيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية ، وهو القرب من جوار رب العالمين ، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين ، والمرافقة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية .

ثم قال تعالى : ( ولو أعجبك كثرة الخبيث ) يعني أن الذي يكون خبيثا في عالم الروحانيات قد يكون طيبا في عالم الجسمانيات ، ويكون كثير المقدار ، وعظيم اللذة ، إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناوله وقرب وجدانه ، سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية ، التي إليها الإشارة بقوله : ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ) [الكهف : 46] وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساويا للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربانية .

ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة ، والتحذيرات من المعصية ، أتبعها بوجه آخر يؤكدها ، فقال تعالى : ( فاتقوا الله ياأولي الألباب لعلكم تفلحون ) أي فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجلية والتعريفات القوية ، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية