1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة المائدة
  4. قوله تعالى وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم
صفحة جزء
( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) .

ثم قال تعالى : ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) وفيه وجوه :

الأول : أنه بين بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم ، ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم ، فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم ، وإن أبديت لهم ساءتهم ، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم .

والوجه الثاني في تأويل الآية : أن السؤال على قسمين ، أحدهما : السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه ، فهذا السؤال منهي عنه بقوله : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) .

والنوع الثاني من السؤال : السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فهاهنا [ ص: 89 ] السؤال واجب ، وهو المراد بقوله : ( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه ، فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم .

فإن قيل : قوله : ( وإن تسألوا عنها ) هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله : ( لا تسألوا عن أشياء ) فكيف يعقل في ( أشياء ) بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا ؟

قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها .

والثاني : أنهما وإن كانا نوعين مختلفين ، إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسئولا عنه شيء واحد ، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين .

الوجه الثالث في تأويل الآية : أن قوله : ( لا تسألوا عن أشياء ) دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء ، فقوله : ( وإن تسألوا عنها ) أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن يبين لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا ؟ والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولا ، وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا .

ثم قال تعالى : ( عفا الله عنها ) وفيه وجوه :

الأول : عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها ، فلا تعودوا إلى مثلها .

الثاني : أنه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم ، فقال : ( عفا الله عنها ) يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسوءكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم .

الثالث : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية ( إن تبد لكم تسؤكم ) وهذا ضعيف لأن الكلام إذا استقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير ، وعلى هذا الوجه فقوله : ( عفا الله عنها ) أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء ، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " عفوت لكم عن صدقة الخيل ، والرقيق " أي خففت عنكم بإسقاطها .

ثم قال تعالى : ( والله غفور حليم ) وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله : ( عفا الله عنها ) ما ذكرناه في الوجه الأول .

ثم قال تعالى : ( قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ) قال المفسرون : يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها ، وقوم موسى قالوا : ( أرنا الله جهرة ) فصار ذلك وبالا عليهم ، وبنو إسرائيل ( قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) قال تعالى : ( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) و ( قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ) [البقرة : 247] فسألوها ثم كفروا بها ، وقوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها ، فكأنه تعالى يقول : أولئك سألوا فلما أعطوا سؤلهم ساءهم ذلك فلا تسألوا عن أشياء فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك . فإن قيل : إنه تعالى قال أولا : ( لا تسألوا عن أشياء ) ثم قال هاهنا : ( قد سألها قوم من قبلكم ) وكان الأولى أن يقول : قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك ؟

[ ص: 90 ] قلنا : الجواب من وجهين :

الأول : أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله وصفة من صفاته ، وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه ، يقال : سألته درهما ؛ أي طلبت منه الدرهم ، ويقال : سألته عن الدرهم ؛ أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته ، فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة ، وإنزال المائدة من السماء ، فهم سألوا نفس الشيء ، وأما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم ما سألوا ذلك ، وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها ، فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة أيضا ، إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد ، وهو أنه خوض في الفضول ، وشروع فيما لا حاجة إليه ، وفيه خطر المفسدة ، والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة يجب على العاقل الاحتراز عنه ، فبين تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولا وخوضا فيما لا فائدة فيه .

والوجه الثاني في الجواب أن الهاء في قوله : ( قد سألها ) غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها ، بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء ، والتقدير : قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم ، فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية