( 
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين   ) . 
ثم قال تعالى : ( 
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم   ) وفيه وجوه : 
الأول : أنه بين بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم ، ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم ، فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم ، وإن أبديت لهم ساءتهم ، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم . 
والوجه الثاني في تأويل الآية : أن السؤال على قسمين ، أحدهما : 
السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه ، فهذا السؤال منهي عنه بقوله : ( 
لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   ) . 
والنوع الثاني من السؤال : السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فهاهنا   
[ ص: 89 ] السؤال واجب ، وهو المراد بقوله : ( 
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم   ) والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه ، فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك القسم . 
فإن قيل : قوله : ( 
وإن تسألوا عنها   ) هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله : ( 
لا تسألوا عن أشياء   ) فكيف يعقل في ( أشياء ) بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعا وجائزا معا ؟ 
قلنا : الجواب عنه من وجهين : 
الأول : جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ومأمورا به بعد نزول القرآن بها . 
والثاني : أنهما وإن كانا نوعين مختلفين ، إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسئولا عنه شيء واحد ، فلهذا الوجه حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين . 
الوجه الثالث في تأويل الآية : أن قوله : ( 
لا تسألوا عن أشياء   ) دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء ، فقوله : ( 
وإن تسألوا عنها   ) أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن يبين لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا ؟ والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولا ، وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا . 
ثم قال تعالى : ( 
عفا الله عنها   ) وفيه وجوه : 
الأول : عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها ، فلا تعودوا إلى مثلها . 
الثاني : أنه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم ، فقال : ( 
عفا الله عنها   ) يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسوءكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم . 
الثالث : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية ( 
إن تبد لكم تسؤكم   ) وهذا ضعيف لأن الكلام إذا استقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير ، وعلى هذا الوجه فقوله : ( 
عفا الله عنها   ) أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء ، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012597عفوت لكم عن صدقة الخيل ، والرقيق   " أي خففت عنكم بإسقاطها . 
ثم قال تعالى : ( 
والله غفور حليم   ) وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله : ( 
عفا الله عنها   ) ما ذكرناه في الوجه الأول . 
ثم قال تعالى : ( 
قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين   ) قال المفسرون : يعني 
قوم صالح  سألوا الناقة ثم عقروها ، وقوم 
موسى  قالوا : ( 
أرنا الله جهرة   ) فصار ذلك وبالا عليهم ، 
وبنو إسرائيل    ( 
قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله   ) قال تعالى : ( 
فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم   ) و ( 
قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه   ) [البقرة : 247] فسألوها ثم كفروا بها ، 
وقوم عيسى  سألوا المائدة ثم كفروا بها ، فكأنه تعالى يقول : أولئك سألوا فلما أعطوا سؤلهم ساءهم ذلك فلا تسألوا عن أشياء فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك . فإن قيل : إنه تعالى قال أولا : ( 
لا تسألوا عن أشياء   ) ثم قال هاهنا : ( 
قد سألها قوم من قبلكم   ) وكان الأولى أن يقول : قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك ؟  
[ ص: 90 ] قلنا : الجواب من وجهين : 
الأول : أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله وصفة من صفاته ، وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه ، يقال : سألته درهما ؛ أي طلبت منه الدرهم ، ويقال : سألته عن الدرهم ؛ أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته ، فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة ، وإنزال المائدة من السماء ، فهم سألوا نفس الشيء ، وأما أصحاب 
محمد    - صلى الله عليه وسلم - فهم ما سألوا ذلك ، وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها ، فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة أيضا ، إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد ، وهو أنه خوض في الفضول ، وشروع فيما لا حاجة إليه ، وفيه خطر المفسدة ، والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة يجب على العاقل الاحتراز عنه ، فبين تعالى أن قوم 
محمد  عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولا وخوضا فيما لا فائدة فيه . 
والوجه الثاني في الجواب أن الهاء في قوله : ( 
قد سألها   ) غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها ، بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء ، والتقدير : قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم ، فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين .