ثم قال تعالى : ( 
لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير   ) . 
قيل : إن هذا جواب عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : من يعطيهم ذلك الفوز العظيم ؟ فقيل : الذي له ملك السماوات والأرض . وفي هذه الخاتمة الشريفة أسرار كثيرة ونحن نذكر القليل منها . فالأول : أنه تعالى قال : ( 
لله ملك السماوات والأرض وما فيهن   ) ولم يقل ومن فيهن ، فغلب غير العقلاء على العقلاء ، والسبب فيه التنبيه على أن كل المخلوقات مسخرون في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره ، وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها ، 
فعلم الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم ، 
وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة   . والثاني : أن مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فقال : ( 
ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود   ) وكمال حال المؤمن في أن يشرع في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية ، فالأول هو الشريعة وهو البداية ، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية . فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر 
كبرياء الله وجلاله وعزته وقدرته وعلوه ، وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة ، فما أحسن   
[ ص: 116 ] المناسبة بين ذلك المفتتح ، وهذا المختتم . 
والثالث : أن السورة اشتملت على أنواع كثيرة من العلوم ، فمنها : بيان الشرائع والأحكام والتكاليف . ومنها المناظرة مع 
اليهود  في إنكارهم شريعة 
محمد  عليه الصلاة والسلام ، ومنها المناظرة مع 
النصارى  في قولهم بالتثليث ، فختم السورة بهذه النكتة الوافية بإثبات كل هذه المطالب ، فإنه قال : ( 
لله ملك السماوات والأرض وما فيهن   ) ومعناه أن 
كل ما سوى الحق سبحانه فإنه ممكن لذاته موجود بإيجاده تعالى   . وإذا كان الأمر كذلك كان مالكا لجميع الممكنات والكائنات ، موجدا لجميع الأرواح والأجساد ، وإذا ثبت هذا لزم منه ثبوت كل المطالب المذكورة في هذه السورة . وأما حسن التكليف كيف شاء وأراد ، فذاك ثابت ؛ لأنه سبحانه لما كان مالكا للكل كان له أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف شاء وأراد ، فصح 
القول بالتكليف على أي وجه أراده الحق سبحانه وتعالى ، وأما الرد على 
اليهود  فلأنه سبحانه لما كان مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع 
موسى  ويضع شرع 
محمد  عليهما الصلاة والسلام ، وأما الرد على 
النصارى  فلأن 
عيسى  ومريم  داخلان فيما سوى الله لأنا بينا أن الموجد إما أن يكون هو الله تعالى أو غيره ، 
وعيسى  ومريم  لا شك في كونهما داخلين في هذا القسم ، فإذا دللنا على أن كل ما سوى الله تعالى ممكن لذاته موجود بإيجاد الله كائن بتكوين الله ، كان 
عيسى  ومريم  عليهما السلام كذلك ، ولا معنى للعبودية إلا ذلك ، فثبت كونهما عبدين مخلوقين ، فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية التي جعلها الله خاتمة لهذه السورة برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها . والله أعلم بأسرار كلامه . 
تم تفسير هذه السورة بحمد الله ومنه ، وصلاته على خير خلقه سيدنا 
محمد  النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .