صفحة جزء
المسألة الخامسة : في قوله : ( الحمد لله ) قولان :

الأول : المراد منه احمدوا الله تعالى ، وإنما جاء على صيغة الخبر لفوائد :

إحداها : أن قوله : ( الحمد لله ) يفيد تعليم اللفظ والمعنى ، ولو قال : احمدوا ، لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين .

وثانيها : أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده .

وثالثها : أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى .

والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين ، معناه : قولوا : الحمد لله ، قالوا : والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) [الفاتحة : 4] وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد ، والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام ، فحينئذ يصير هذا الأمر حاملا للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم الله تعالى عليه . ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين :

أحدهما : أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بد لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه ، فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره لوجب أن يكون كل واحد واصلا إلى جميع أقسام النعم ، إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه ، ولما ثبت أنه لا بد لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد ، فوجب الإقرار بمحدث قاهر قادر ، وهو الله سبحانه وتعالى .

والنوع الثاني من مقاصد هذه الكلمة : أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ، فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد ، وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى ، صار ذلك التكليف حاملا للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه ، ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء ، صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد ، فثبت أن تذكير النعم يفيد [ ص: 122 ] هاتين الفائدتين الشريفتين :

إحداهما : الاستدلال بحدوثها عن الإقرار بوجود الله تعالى .

وثانيهما : أن الشعور بكونها نعما يوجب ظهور حب الله في القلب ، ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران ، فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة ، فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) .

واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له ؛ لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى ، وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه ، وهو الأرواح . ثم الأجسام إما فلكية ، وإما عنصرية ، أما الفلكيات فأولها العرش المجيد ، ثم الكرسي الرفيع . ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو ، وأن الكرسي ما هو ، وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما ، ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ والقلم والرفرف والبيت المعمور وسدرة المنتهى ما هي ، وأن يعرف حقائقها ، ثم يتفكر في طبقات السماوات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها ، ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة ، ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان ، ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض ، ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة ، وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها ، ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية ، ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) [الأنبياء : 19] فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة ، فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم ، وهو كل ما سوى الله تعالى ، ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها ، فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده ، فعند هذا يعرف من معنى قوله : ( الحمد لله رب العالمين ) ذرة ، وهذا بحر لا ساحل له ، وكلام لا آخر له ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية