صفحة جزء
[ ص: 123 ] أما قوله سبحانه : ( الذي خلق السماوات والأرض ) ففيه مسألتان :

الأولى : في السؤالات المتوجهة على هذه الآية وهي ثلاثة :

السؤال الأول : إن قوله : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) جار مجرى ما يقال : جاءني الرجل الفقيه ، فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه ، وإلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة ، كذا ههنا ، قوله : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) يوهم أن هناك إلها لم يخلق السماوات والأرض ، وإلا فأي فائدة في هذه الصفة ؟

والجواب : أنا بينا أن قوله : " الله " جار مجرى اسم العلم ، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوصف التمييز ، بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى موصوفا بتلك الصفة . مثاله إذا قلنا : الرجل العالم ، فقولنا : الرجل اسم الماهية ، والماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين ، فكان المقصود ههنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة ، أما إذا قلنا : زيد العالم ، فلفظ " زيد " اسم علم ، وهو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة ; لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات ، فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره ، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفا بهذه الصفة ، ولما كان لفظ " الله " من باب أسماء الأعلام ، لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه والله أعلم .

السؤال الثاني : لم قدم ذكر السماء على الأرض ، مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء ؟

والجواب : السماء كالدائرة ، والأرض كالمركز ، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس ، فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها ، فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار .

السؤال الثالث : لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضا كثيرة بدليل قوله تعالى : ( ومن الأرض مثلهن ) [ الطلاق : 12 ] .

والجواب : أن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل ، فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، وذلك يخل بمصالح هذا العالم ، أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم ، أما الأرض فهي قابلة للأثر والقابل الواحد كاف في القبول ، وأما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها والله أعلم .

المسألة الثانية : اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع ، وتقريره أن أجرام السماوات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة ، وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار .

أما بيان المقام الأول فمن وجوه :

الأول : أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلا مقدارا أزيد منه أو أنقص منه .

والثاني : أن كل فلك بمقدار مركب من [ ص: 124 ] أجزاء ، والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجا وبالعكس ، فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز .

والثالث : أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة ، ولوازم الأمور الواحدة واحدة ، فإذا صح السكون والحركة على بعض الأجسام وجب أن يصحا على كلها . فاختصاص الجسم الفلكي بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن .

والرابع : أن كل حركة ، فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع وأبطأ مما وقع ، فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن .

والخامس : أن كل حركة وقعت متوجهة إلى جهة ، فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات ، فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن .

والسادس : أن كل فلك ، فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه وإما أسفل منه ، وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمرا ممكنا ، بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية ، فكل ما صح على بعضها صح على كلها ، فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمرا ممكنا .

والسابع : وهو أن لحركة كل فلك أولا ؛ لأن وجود حركة لا أول لها محال ؛ لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة ، وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير ، والأول ينافي المسبوقية بالغير ، والجمع بينهما محال ، فثبت أن لكل حركة أولا ، واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن .

والثامن : هو أن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس ، اختصاصا بأمر ممكن .

والتاسع : وهو أن حركاتها فعل لفاعل مختار ، ومتى كان كذلك فلها أول ، بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها ، فيلزم من دوام تلك العلة دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة ، ولما كان ذلك محالا ثبت أن المؤثر فيها ليس علة موجبة بالذات ، بل فاعلا مختارا ، وإذا كان كذلك وجب كون ذلك الفاعل متقدما على هذه الحركات ، وذلك يوجب أن يكون لها بداية .

العاشر : أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا ، وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة ، وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له ، وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن ، فثبت بهذه الوجوه العشرة : أن أجرام السماوات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال ، فكان يجوز في العقل حصول أضدادها ومقابلاتها ، فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال .

وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لا معنى للخلق إلا التقدير ، فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة ؛ فلهذا المعنى قال : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) والله أعلم ، ومن الناس من قال : المقصود من ذكر السماوات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع .

واعلم أن منافع السماوات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات ، وذلك لأن السماوات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب ، والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم ، فالعلل الفاعلة سماوية [ ص: 125 ] والعلل القابلة أرضية وبها يتم أمر المواليد الثلاثة ، والاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية