( 
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون   ) . 
قوله تعالى : ( 
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون   ) . 
اعلم أن هذا النوع الثالث من 
شبه منكري النبوات فإنهم يقولون : لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر ، وقدرتهم أشد ، ومهابتهم أعظم ، وامتيازهم عن الخلق أكمل ، والشبهات والشكوك في نبوتهم ورسالتهم أقل .   
[ ص: 134 ] والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاء إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى ، فلما كان وقوع الشبهات في نبوة الملائكة أقل ، وجب لو بعث الله رسولا إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة ، هذا هو المراد من قوله تعالى : ( 
وقالوا لولا أنزل عليه ملك   ) . 
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين : 
أما الأول : فقوله : ( 
ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر   ) ومعنى القضاء الإتمام والإلزام ، وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة ، ثم ههنا وجوه : 
الأول : أن إنزال الملك على البشر آية باهرة ، فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء الكفار فربما لم يؤمنوا كما قال : ( 
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة   ) [ الأنعام : 111 ] إلى قوله : ( 
ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله   ) [ الأنعام : 111 ] وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال ، فإن سنة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال ، فههنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب . 
والوجه الثاني : أنهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم من هول ما يشهدون ، وتقريره : أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر . فإن كان الأول لم يبق الآدمي حيا ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى 
جبريل  عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصا على صورة البشر ، وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا . ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف 
إبراهيم  ، وأضياف 
لوط  ، وكالذين تسوروا المحراب ، 
وكجبريل  حيث تمثل 
لمريم  بشرا سويا . 
والوجه الثالث : أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الإلجاء ، وإزالة الاختيار ، وذلك مخل بصحة التكليف . 
الوجه الرابع : أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر ، وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا : هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت ، فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه . 
وأما قوله : ( 
ثم لا ينظرون   ) فالفائدة في كلمة " ثم " التنبيه على أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة . 
وأما الثاني : فقوله : ( 
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا   ) أي لجعلناه في صورة البشر . والحكمة فيه أمور : 
أحدها : أن الجنس إلى الجنس أميل . 
وثانيها : أن البشر لا يطيق رؤية الملك . 
وثالثها : أن طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر ، وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي . 
ورابعها : أن 
النبوة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده ، سواء كان ملكا أو بشرا . 
ثم قال : ( 
وللبسنا عليهم ما يلبسون   ) قال 
الواحدي    : يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا ، وأصله من التستر بالثوب ، ومنه لبس الثوب ؛ لأنه يفيد ستر النفس ، والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشرا ، فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص . وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيرا لفعلهم في التلبيس ، وإنما كان ذلك تلبيسا ؛ لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك ، وإنما كان فعلهم تلبيسا ؛ لأنهم يقولون لقومهم : إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولا من عند الله تعالى .