صفحة جزء
المسألة الثانية : المشبهة استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى موجود في الجهة التي هي فوق العالم وهو مردود ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه لو كان موجودا فوق العالم لكان إما أن يكون في الصغر بحيث لا يتميز جانب منه من جانب . وإما أن يكون ذاهبا في الأقطار متمددا في الجهات .

والأول يقتضي أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد فلو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباآت الواقعة في كوة البيت ، وذلك لا يقوله عاقل ، وإن كان الثاني كان متبعضا متجزئا ، وذلك على الله محال .

والثاني : أنه إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وحينئذ يصح عليه الزيادة والنقصان . وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين لتخصيص مخصص ، فيكون محدثا أو يكون متناهيا من بعض الجوانب دون البعض ، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه وذلك يوجب القسمة والتجزئة .

والثالث : إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد والخلاء . فإن كان الأول فنقول : أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا حيث ولا جهة ، فيمتنع حصول ذات الله تعالى فيه . وإن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته وإذا كان كذلك ، فلو صح حصول الله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء لصح حصوله في سائر الأجزاء ، ولو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص ، وكل ما كان واقعا بالفاعل المختار فهو محدث ، فحصول ذاته في الجزء محدث . وذاته لا تنفك عن ذلك الحصول وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ، فيلزم كون ذاته محدثة وهو محال .

الرابع : أن البعد والخلاء أمر قابل للقسمة والتجزئة ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده قبله فيكون ذات الله تعالى قد كانت موجودة قبل وجود الخلاء والجهة والحيث والحيز .

وإذا ثبت هذا : فبعد الحيز والجهة والخلاء وجب أن تبقى ذات الله تعالى كما كانت وإلا فقد وقع التغيير في ذات الله تعالى وذلك محال .

وإذا ثبت هذا وجب القول بكونه منزها عن الأحياز والجهات في جميع الأوقات .

والخامس : أنه ثبت أن العالم كرة ، وإذا ثبت هذا فالذي يكون فوق رءوس أهل الري يكون تحت أقدام قوم آخرين .

وإذا ثبت هذا ، فإما أن يقال : إنه تعالى فوق أقوام بأعيانهم . أو يقال : إنه تعالى فوق الكل . والأول باطل ، لأن كونه فوقا لبعضهم يوجب كونه تحتا لآخرين ، وذلك باطل ، والثاني يوجب كونه تعالى محيطا بكرة الفلك ، فيصير حاصل الأمر إلى أن إله العالم هو فلك محيط بجميع الأفلاك وذلك لا يقوله مسلم .

والسادس : هو أن لفظ الفوقية في هذه الآية مسبوق بلفظ وملحوق بلفظ آخر . أما أنها مسبوقة فلأنها مسبوقة بلفظ القاهر ، [ ص: 145 ] والقاهر مشعر بكمال القدرة وتمام المكنة . وأما أنها ملحوقة بلفظ فلأنها ملحوقة بقوله : ( عباده ) وهذا اللفظ مشعر بالمملوكية والمقدورية ، فوجب حمل تلك الفوقية على فوقية القدرة لا على فوقية الجهة .

فإن قيل : ما ذكرتموه على الضد من قولكم ، إن قوله : ( وهو القاهر فوق عباده ) دل على كمال القدرة . فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار ، فوجب حمله على فوقية المكان والجهة .

قلنا : ليس الأمر كما ذكرتم ؛ لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض وقوله : ( فوق عباده ) دل على أن ذلك القهر والقدرة عام في حق الكل .

والسابع : وهو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية ردا على من يتخذ غير الله وليا ، والتقدير : كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير الله وليا ، وهذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات ؛ كان المراد من تلك الفوقية ، الفوقية بالقدرة والقوة . أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود ؛ لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلا في جهة فوق أن يكون التعويل عليه في كل الأمور مفيدا ، وأن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازما . أما إذا حملنا ذلك على فوقية القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه ، لا ما ذكره أهل التشبيه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية