[ ص: 165 ]   ( 
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون   ) 
قوله تعالى : ( 
وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون   ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أن 
المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها ، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيها على خساستها وركاكتها . 
واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها ؛ لأن هذه الحياة العاجلة لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها ، فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان : 
القول الأول : أن المراد منه حياة الكافر . قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : يريد حياة أهل الشرك والنفاق ، والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعبا ولهوا . 
والقول الثاني : أن هذا عام في حياة المؤمن والكافر ، والمراد منه اللذات الحاصلة في هذه الحياة والطيبات المطلوبة في هذه الحياة ، وإنما سماها باللعب واللهو ، لأن الإنسان حال اشتغاله باللعب واللهو يلتذ به ، ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة ، فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة . 
واعلم أن 
تسمية هذه الحياة باللعب واللهو فيه وجوه : 
الأول : أن مدة اللهو واللعب قليلة سريعة الانقضاء والزوال ، ومدة هذه الحياة كذلك . 
الثاني : أن اللعب واللهو لا بد وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ، ولذات الدنيا كذلك . 
الثالث : أن اللعب واللهو ، إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور ، وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور ، لا يبقى اللعب واللهو أصلا ، وكذلك اللهو واللعب ، فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين ، أما العقلاء والحصفاء ، فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو ، فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور ، وأما الحكماء المحققون ، فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور ، وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة . 
الرابع : أن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة ، فثبت بمجموع هذه الوجوه أن اللذات والأحوال الدنيوية لعب ولهو وليس لهما حقيقة معتبرة . ولما بين تعالى ذلك قال بعده : ( 
وللدار الآخرة خير للذين يتقون   ) وصف الآخرة بكونها خيرا ، ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفاوت بين أحوال الدنيا وأحوال الآخرة في أمور : 
أحدها : أن 
خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة   . 
بيان أن الأمر كذلك وجوه : 
الأول : أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين ، وهو في نهاية الخساسة ، بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيه ، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان ، فإن الجمل أكثر أكلا ، والديك والعصفور أكثر وقاعا ، والذئب أقوى على الفساد والتمزيق ، والعقرب أقوى على الإيلام ، ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف ، فكان يجب أن يكون الإنسان   
[ ص: 166 ] الذي وقف كل عمره على الأكل والوقاع أشرف الناس ، وأعلاهم درجة ، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتا مستقذرا مستحقرا يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس ، ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها ، ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص ، ومما يدل على ذلك أيضا أن الناس إذا شتم بعضهم بعضا لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع ، ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام ، ولذلك فإن كل من كان أشد جوعا وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى ، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر . ومما يدل عليه أيضا أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء . فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات . وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة ، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية ، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيدا لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه ، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية ، وكمال مرتبة اللذات الروحانية . 
الوجه الثاني : في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا ، وهو أن نقول : هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة ، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد القيامة معلوم قطعا . وأما الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون ، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم ، وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة ، ثم أمسى أسيرا حقيرا ، وهذا التفاوت أيضا يوجب المباينة بين النوعين . 
الوجه الثالث : هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوما آخر في الدنيا ، إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا ؟ أما كل ما جمعه من موجبات السعادات ، فإنه يعلم قطعا أنه ينتفع به في الدار الآخرة . 
الوجه الرابع : هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خاليا عن شوائب المكروهات ، وممازجة المحرمات المخوفات . ولذلك قيل : 
من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق . فقيل : وما هو يا رسول الله ؟ قال : " سرور يوم بتمامه   " . 
الوجه الخامس : هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد ، إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة ، وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر 
 nindex.php?page=showalam&ids=15155المتنبي    : 
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا 
 [ ص: 167 ] فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة ، والنقصانات الكاملة ، وسعادات الآخرة مبرأة عنها ، فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى . 
المسألة الثانية : قرأ 
ابن عامر    : ( ولدار الآخرة ) بإضافة الدار إلى الآخرة ، والباقون : ( 
وللدار الآخرة   ) على جعل الآخرة نعتا للدار . أما وجه قراءة 
ابن عامر  فهو أن الصفة في الحقيقة مغايرة للموصوف فصحت الإضافة من هذا الوجه ، ونظيره قولهم بارحة الأولى ، ويوم الخميس وحق اليقين ، وعند البصريين لا تجوز هذه الإضافة ، قالوا : لأن الصفة نفس الموصوف ، وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة . 
واعلم أن هذا بناء على أن الصفة نفس الموصوف وهو مشكل ؛ لأنه يعقل تصور الموصوف منفكا عن الصفة ، ولو كان الموصوف عين الصفة لكان ذلك محالا ، ولقولهم وجه دقيق يمكن تقريره ، إلا أنه لا يليق بهذا المكان ، ثم إن البصريين ذكروا في تصحيح قراءة 
ابن عامر  وجها آخر ، فقالوا : لم يجعل الآخرة صفة للدار ، لكنه جعلها صفة للساعة ، فكأنه قال : ولدار الساعة الآخرة . 
فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم تكون قد أقيمت الآخرة التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة وذلك قبيح . قلنا لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل استعمال الأسماء ، والدليل عليه : قوله : ( 
وللآخرة خير لك من الأولى   ) [ الضحى : 4 ] وأما قراءة العامة فهي ظاهرة ؛ لأنها تقتضي جعل الآخرة صفة للدار وذلك هو الحقيقة ومتى أمكن إجراء الكلام على حقيقته فلا حاجة إلى العدول عنه والله أعلم . 
المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد بالدار الآخرة على وجوه : 
قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : هي الجنة ، وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي . 
وقال 
الحسن    : المراد نفس الآخرة خير . 
وقال 
الأصم    : التمسك بعمل الآخرة خير   . 
وقال آخرون : نعيم الآخرة من نعيم الدنيا ، من حيث إنها باقية دائمة مصونة عن الشوائب آمنة من الانقضاء والانقراض . 
ثم قال تعالى : ( 
للذين يتقون   ) فبين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين من المعاصي والكبائر . فأما الكافر والفاسق فلا ! لأن الدنيا بالنسبة إليه خير من الآخرة على ما قال عليه السلام : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012427الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر   . 
ثم قال : ( أفلا تعقلون ) قرأ 
نافع  وابن عامر    : ( أفلا تعقلون ) بالتاء ههنا وفي سورة الأعراف ويوسف ويس . وقرأ 
حفص  عن 
عاصم  في : "يس" بالياء والباقي بالتاء . وقرأ 
عاصم  في رواية 
يحيى  في يوسف بالتاء والباقي بالياء . وقرأ 
ابن كثير  وأبو عمرو  وحمزة  والكسائي  وعاصم  في رواية 
الأعشى  والبرجمي  جميع ذلك بالياء . قال 
الواحدي    : من قرأ بالياء معناه : أفلا يعقلون الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار ؟ فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك ، ومن قرأ بالتاء ، فالمعنى : قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون أن ذلك خير ؟ والله أعلم .