صفحة جزء
أما قوله : ( ثم إلى ربهم يحشرون ) فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة . ويتأكد هذا بقوله تعالى : ( وإذا الوحوش حشرت ) [ التكوير : 5 ] وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقتص للجماء من القرناء وللعقلاء فيه قولان :

القول الأول : أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لا لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة . وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض ، ولما كان إيصال العوض إليها واجبا ، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها .

والقول الثاني : قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال ، بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية . واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور :

الحجة الأولى : أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزما للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزما للذم محال ؛ لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزما للذم بسبب أمر منفصل ؛ لأن ما بالذات لا يبطل عند عروض أمر من الخارج .

والحجة الثانية : أنه تعالى مالك لكل المحدثات ، والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض .

والحجة الثالثة : أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض ، لوجب أن يحسن منا إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل ، فثبت أن القول بالعوض باطل . والله أعلم .

إذا عرفت هذا : فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الباب .

الفرع الأول : قال القاضي : كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام ، وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا ، فإنه يجب على الله حشره عقلا في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض ، والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلا ، إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل ، فمن حيث السمع يقطع بذلك . وإنما قلنا : إن في الحيوانات من لا يستحق العوض البتة ، لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلا . فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لا بد وأن يحصل معه شيء من الإيلام ، وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض البتة .

الفرع الثاني : كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله . وهي أقسام : منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ، ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية ، مثل السباع العادية والحشرات المؤذية ، ومنها آلمها بالأمراض ، ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضا فذلك العوض على ذلك الظالم .

[ ص: 181 ] فإن قيل : إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض ؟

أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح ، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة .

الفرع الثالث : المراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة ، وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به ، فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والإضرار .

الفرع الرابع : مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع . قال القاضي : وهو قول أكثر المفسرين ، لأنهم قالوا : إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها ترابا ، وعند هذا يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا . قال أبو القاسم البلخي : يجب أن يكون العوض دائما . واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملا شاقا والأجرة منقطعة ، فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة . واحتج البلخي على قوله ، بأن قال : إنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة ، وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضا آخر ، وهكذا إلى ما لا آخر له .

والجواب عنه : أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام . والله أعلم .

الفرع الخامس : أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضا ، فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضا على الله تعالى فإنه ينقل ذلك العوض إلى المظلوم . وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض ، فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية