صفحة جزء
( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين )

اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته . وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة ، بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة ، كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ، ومنه قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) [ الفتح : 10 ] ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله : ( وهو القاهر فوق عباده ) مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية ، والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة ، إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهورا . وتقرير هذا القهر من وجوه :

الأول : أنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد .

والثاني : أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى . فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات .

والثالث : أنه قهار لكل ضد بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور ، والنهار بالليل والليل بالنهار . وتمام تقريره في قوله : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) [ آل عمران : 26 ] .

وإذا عرفت منهج الكلام ، فاعلم أنه بحر لا ساحل له ؛ لأن كل مخلوق فله ضد ، فالفوق ضده التحت ، والماضي ضده المستقبل ، والنور ضده الظلمة ، والحياة ضدها الموت ، والقدرة ضدها العجز . وتأمل في سائر الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان ، وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبرا قادرا قاهرا منزها عن الضد والند ، مقدسا عن الشبيه والشكل ، كما قال : ( وهو القاهر فوق عباده ) .

والرابع : أن هذا البدن مؤلف من الطبائع الأربع ، وهي متنافرة متباغضة متباعدة بالطبع والخاصة ، فاجتماعها لا بد وأن يكون بقسر قاسر ، وأخطأ من قال : إن ذلك القاسر هو النفس الإنسانية ، وهو الذي ذكره ابن سينا في الإشارات ؛ لأن تعلق النفس بالبدن إنما يكون بعد حصول المزاج واعتدال الأمشاج ، والقاهر لهذه الطبائع على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع ، والسابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخر عن حصول الاجتماع ، فثبت أن القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلا الله تعالى ، كما قال : ( وهو القاهر فوق عباده ) وأيضا فالجسد كثيف سفلي ظلماني فاسد عفن ، والروح لطيف علوي نوراني مشرق باق طاهر نظيف ، فبينهما أشد المنافرة والمباعدة . ثم إنه سبحانه جمع بينهما [ ص: 13 ] على سبيل القهر والقدرة ، وجعل كل واحد منهما مستكملا بصاحبه منتفعا بالآخر . فالروح تصون البدن عن العفونة والفساد والتفرق ، والبدن يصير آلة للروح في تحصيل السعادات الأبدية ، والمعارف الإلهية ، فهذا الاجتماع وهذا الانتفاع ليس إلا بقهر الله تعالى لهذه الطبائع ، كما قال : ( وهو القاهر فوق عباده ) وأيضا فعند دخول الروح في الجسد أعطى الروح قدرة على فعل الضدين ، ومكنة من الطرفين إلا أنه يمتنع رجحان الفعل على الترك تارة والترك على الفعل أخرى إلا عند حصول الداعية الجازمة الخالية عن المعارض . فلما لم تحصل تلك الداعية امتنع الفعل والترك ، فكان إقدام الفاعل على الفعل تارة وعلى الترك أخرى بسبب حصول تلك الداعية في قلبه من الله يجري مجرى القهر ، فكان قاهرا لعباده من هذه الجهة ، وإذا تأملت هذه الأبواب علمت أن الممكنات والمبدعات والعلويات والسفليات والذوات والصفات كلها مقهورة تحت قهر الله مسخرة تحت تسخير الله تعالى ، كما قال : ( وهو القاهر فوق عباده ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية