صفحة جزء
أما قوله : ( ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : ( ألا له الحكم ) معناه أنه لا حكم إلا لله . ويتأكد ذلك بقوله : ( إن الحكم إلا لله ) [الأنعام : 57] وذلك يوجب أنه لا حكم لأحد على شيء إلا الله ، وذلك يوجب أن الخير والشر كله بحكم الله وقضائه ، فلولا أن الله حكم للسعيد بالسعادة والشقي بالشقاوة ، وإلا لما حصل ذلك .

المسألة الثانية : قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن الطاعة لا توجب الثواب ، والمعصية لا توجب العقاب ، إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله حكم ، وهو أخذ الثواب ، وذلك ينافي ما دلت الآية عليه أنه لا حكم إلا لله .

المسألة الثالثة : احتج الجبائي بهذه الآية على حدوث كلام الله تعالى . قال : لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة الآن وقبل خلقه ، وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم وأصحابنا عارضوه بالعلم ، فإنه تعالى كان قبل الخلق عالما بأنه سيوجد ، وبعد وجوده صار عالما بأنه قبل ذلك وجد ، فلم يلزم منه تغير العلم ، فلم لا يجوز مثله في الكلام . والله أعلم .

المسألة الرابعة : اختلفوا في كيفية هذا الحساب ، فمنهم من قال : إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة ، لا يشغله كلام عن كلام ، ومنهم من قال : بل يأمر الملائكة حتى أن كل واحد من الملائكة يحاسب واحدا من العباد ؛ لأنه تعالى لو حاسب الكفار بنفسه لتكلم معهم ، وذلك باطل لقوله تعالى في صفة الكفار : ( ولا يكلمهم ) وأما الحكماء فلهم كلام في تفسير هذا الحساب ، وهو أنه إنما يتلخص بتقديم مقدمتين .

فالمقدمة الأولى : أن كثرة الأفعال وتكررها توجب حدوث الملكات الراسخة القوية الثابتة ، والاستقراء التام يكشف عن صحة ما ذكرناه . ألا ترى أن كل من كانت مواظبته على عمل من الأعمال أكثر كان رسوخ الملكة التامة على ذلك العمل منه فيه أقوى .

المقدمة الثانية : إنه لما كان تكرر العمل يوجب حصول الملكة الراسخة ، وجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة ، بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة ، والعقلاء ضربوا لهذا الباب أمثلة :

[ ص: 17 ] المثال الأول : أنا لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو ألقي فيها مائة ألف من فإنها تغوص في الماء بقدر شبر واحد ، فلو لم يلق فيها إلا حبة واحدة من الحنطة ، فهذا القدر من إلقاء الجسم الثقيل في تلك السفينة يوجب غوصها في الماء بمقدار قليل ، وإن قلت وبلغت في القلة إلى حيث لا يدركها الحس ولا يضبطها الخيال .

المثال الثاني : أنه ثبت عند الحكماء أن البسائط أشكالها الطبيعية كرات ، فسطح الماء يجب أن يكون كرة والقسي المشابهة من الدوائر المحيطة بالمركز الواحد متفاوتة ، فإن تحدب القوس الحاصل من الدائرة العظمى يكون أقل من تحدب القوس المشابهة للأولى من الدائرة الصغرى ، وإذا كان الأمر كذلك فالكوز إذا ملئ من الماء ووضع تحت الجبل كانت حدبة سطح ذلك الماء أعظم من حدبته عندما يوضع الكوز فوق الجبل ، ومتى كانت الحدبة أعظم وأكثر كان احتمال الماء بالكوز أكثر ، فهذا يوجب أن احتمال الكوز للماء حال كونه تحت الجبل أكثر من احتماله للماء حال كونه فوق الجبل ، إلا أن هذا القدر من التفاوت بحيث لا يفي بإدراكه الحس والخيال ؛ لكونه في غاية القلة .

والمثال الثالث : أن الإنسانين اللذين يقف أحدهما بالقرب من الآخر ، فإن رجليهما يكونان أقرب إلى مركز العالم من رأسيهما ؛ لأن الأجرام الثقيلة تنزل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز ، إلا أن ذلك القدر من التفاوت لا يفي بإدراكه الحس والخيال .

فإذا عرفت هذه الأمثلة ، وعرفت أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات فنقول : لا فعل من أفعال الخير والشر بقليل ولا كثير إلا ويفيد حصول أثر في النفس ؛ إما في السعادة ، وإما في الشقاوة ، وعند هذا ينكشف بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ولما ثبت أن الأفعال توجب حصول الملكات ، والأفعال الصادرة من اليد فهي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة ، وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل ، فلا جرم تكون الأيدي والأرجل شاهدة يوم القيامة على الإنسان ، بمعنى أن تلك الآثار النفسانية ، إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح ، فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جاريا مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس . وأما الحساب : فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج ، ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثرا في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس ، إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة ، ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة . فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض ، وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد ، وقدر آخر من الخلق الذميم ، فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد ، ومقدار ذلك الخلق الذميم ، وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم ، وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن ، فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب ، فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية ، والله العالم بحقائق الأمور .

التالي السابق


الخدمات العلمية