[ ص: 18 ]   ( 
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون   ) 
قوله تعالى : ( 
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون   ) 
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية ، وكمال الرحمة والفضل والإحسان . وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ 
عاصم  وحمزة  والكسائي    ( 
قل من ينجيكم   ) بالتشديد في الكلمتين ، والباقون بالتخفيف . قال 
الواحدي    : والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا ، فإن شئت نقلت بالهمزة ، وإن شئت نقلت بتضعيف العين ، مثل : أفرحته وفرحته ، وأغرمته وغرمته ، وفي القرآن : ( 
فأنجيناه والذين معه   ) [ الأعراف : 72 ] وفي آية أخرى : ( 
ونجينا الذين آمنوا   ) [ فصلت : 18 ] ولما جاء التنزيل باللغتين معا ظهر استواء القراءتين في الحسن ، غير أن الاختيار التشديد ؛ لأن ذلك من الله كان غير مرة ، وأيضا قرأ 
عاصم  في رواية 
أبي بكر    "خفية" بكسر الخاء والباقون بالضم ، وهما لغتان ، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف ، وعن 
الأخفش  في "خفية وخفية" أنهما لغتان ، وأيضا الخفية من الإخفاء ، والخيفة من الرهب ، وأيضا ( 
لئن أنجيتنا   ) من هذه . قرأ 
عاصم  وحمزة  والكسائي    ( لئن أنجانا ) على المغايبة ، والباقون ( 
لئن أنجيتنا   ) على الخطاب ، فأما الأولون : وهم الذين قرءوا على المغايبة ، فقد اختلفوا ؛ قرأ 
عاصم  بالتفخيم ، والباقون بالإمالة ، وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ وما بعده مذكور بلفظ المغايبة ، فأما ما قبله فقوله : ( 
تدعونه   ) وأما ما بعده فقوله : ( 
قل الله ينجيكم منها   ) وأيضا فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار ، والتقدير : يقولون لئن أنجيتنا ، والإضمار خلاف الأصل . وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى : ( 
لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين   ) [يونس : 22] . 
المسألة الثانية : ( 
ظلمات البر والبحر   ) مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما . يقال لليوم الشديد : يوم مظلم . ويوم ذو كواكب أي اشتدت ظلمته حتى عادت كالليل ، وحقيقة الكلام فيه أنه يشتد الأمر عليه ، ويشتبه عليه كيفية الخروج ، ويظلم عليه طريق الخلاص . ومنهم من حمله على حقيقته فقال : أما ظلمات البحر فهي أن تجتمع ظلمة الليل ، وظلمة البحر وظلمة السحاب ، ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها ، فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف ، وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب ، والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى ، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا ؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى ، وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى ، وهو المراد من قوله : ( 
تضرعا وخفية   ) فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا   
[ ص: 19 ] إلى الله ، ولا تعويل إلا على فضل الله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات ، لكنه ليس كذلك ، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة . يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ، ويقدم على الشرك ، ومن المفسرين من يقول : المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان ، وأنا أقول : التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية يقرب من أن يكون تعلقا بالوثن ، فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي ، ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور : 
أحدها : الدعاء . 
وثانيها : التضرع . 
وثالثها : الإخلاص بالقلب ، وهو المراد من قوله : ( 
وخفية   ) . 
ورابعها : التزام الاشتغال بالشكر ، وهو المراد من قوله : ( 
لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين   ) . 
ثم بين تعالى أنه ينجيهم من تلك المخاوف ، ومن سائر موجبات الخوف والكرب . ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك ، ونظير هذه الآية قوله : ( 
ضل من تدعون إلا إياه   ) [الإسراء : 67] وقوله : ( 
وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين   ) [يونس : 22] وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك ، إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به .