صفحة جزء
( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون )

قوله تعالى : ( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون )

[ ص: 25 ] اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على عبدة الأصنام وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) [الأنعام : 56] فقال : ( قل أندعو من دون الله ) أي أنعبد من دون الله النافع الضار ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا ، ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد أن أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام ؟ ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل إنه رجع إلى خلف ، ورجع على عقبيه ورجع القهقرى ، والسبب فيه أن الأصل في الإنسان هو الجهل ، ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم . قال تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) [ النحل : 78 ] فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة ، فلهذا السبب يقال : فلان رد على عقبيه .

وأما قوله : ( كالذي استهوته الشياطين في الأرض ) فاعلم أنه تعالى وصف هذا الإنسان بثلاثة أنواع من الصفات :

الصفة الأولى : قوله : ( استهوته الشياطين ) وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرأ حمزة " استهواه " بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء ؛ لأن الجمع يصلح أن يذكر على معنى الجمع ، ويصلح أن يؤنث على معنى الجماعة .

المسألة الثانية : اختلفوا في اشتقاق ( استهوته ) على قولين :

القول الأول : أنه مشتق من الهوي في الأرض ، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض ، فشبه الله تعالى حال هذا الضال به وهو قوله : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء ) [الحج : 31] ولا شك أن حال هذا الإنسان عند هويه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة المظلمة يكون في غاية الاضطراب والضعف والدهشة .

والقول الثاني : أنه مشتق من اتباع الهوى والميل ، فإن من كان كذلك فإنه ربما بلغ النهاية في الحيرة ، والقول الأول أولى ؛ لأنه أكمل في الدلالة على الدهشة والضعف .

الصفة الثانية : قوله : ( حيران ) قال الأصمعي : يقال حار يحار حيرة وحيرا ، وزاد الفراء حيرانا وحيرورة ، ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه . ومنه يقال : الماء يتحير في الغيم أي يتردد ، وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء . واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن ، وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه ؛ لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة ، وذلك يوجب كمال التردد والتحير ، وأيضا فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل ، فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال .

الصفة الثالثة : قوله تعالى : ( له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ) قالوا : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه كان يدعوه إلى الإيمان ويأمره بأن يرجع من طريق الجهالة إلى الهداية ، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان . وقيل : المراد أن لذلك الكافر الضال أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى وهذا بعيد . والقول الصحيح هو الأول .

[ ص: 26 ] ثم قال تعالى : ( قل إن هدى الله هو الهدى ) يعني هو الهدى الكامل النافع الشريف كما إذا قلت : علم زيد هو العلم وملك عمرو هو الملك كان معناه ما ذكرناه من تقرير أمر الكمال والشرف .

ثم قال تعالى : ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) واعلم أن قوله : ( إن هدى الله هو الهدى ) دخل فيه جميع أقسام المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات ، وتقرير الكلام أن كل ما تعلق أمر الله به ، فإما أن يكون من باب الأفعال ، وإما أن يكون من باب التروك .

أما القسم الأول : فإما أن يكون من باب أعمال القلوب وإما أن يكون من باب أفعال الجوارح ، ورئيس أعمال القلوب الإيمان بالله والإسلام له ، ورئيس أعمال الجوارح الصلاة ، وأما الذي يكون من باب التروك فهو التقوى وهو عبارة عن الاتقاء عن كل ما لا ينبغي ، والله سبحانه لما بين أولا أن الهدى النافع هو هدى الله ، أردف ذلك الكلام الكلي بذكر أشرف أقسامه على الترتيب وهو الإسلام الذي هو رئيس الطاعات الروحانية ، والصلاة التي هي رئيسة الطاعات الجسمانية ، والتقوى التي هي رئيسة لباب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي ، ثم بين منافع هذه الأعمال فقال : ( وهو الذي إليه تحشرون ) يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر والبعث والقيامة .

فإن قيل : كيف حسن عطف قوله : ( وأن أقيموا الصلاة ) على قوله : ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) ؟

قلنا : ذكر الزجاج فيه وجهين :

الأول : أن يكون التقدير ، وأمرنا فقيل لنا أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة .

فإن قيل : هب أن المراد ما ذكرتم ، لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه إلا بالتأويل ؟

قلنا : وذلك لأن الكافر ما دام يبقي على كفره ، كان كالغائب الأجنبي فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين ، فيقال له : ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) وإذا أسلم وآمن ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر ، فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين ، ويقال له : ( وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون ) فالمقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان ، وتقريره أن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية