صفحة جزء
المسألة الثالثة : اعلم أن أسماء القرآن كثيرة : أحدها : الكتاب ، وهو مصدر كالقيام والصيام ، وقيل : فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس ، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال : ( كتاب أنزلناه إليك ) [ص : 29] والكتاب جاء في القرآن على وجوه :

أحدها : الفرض ( كتب عليكم القصاص ) [البقرة : 178] ( كتب عليكم الصيام ) [البقرة : 182 ) ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) [النساء : 103] .

وثانيها : الحجة والبرهان ( فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين ) [الصافات : 157] أي برهانكم .

وثالثها : الأجل ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) [الحجر : 4] أي أجل .

ورابعها : بمعنى مكاتبة السيد عبده ( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم ) [النور : 33] وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة ، واشتقاق الكتب من كتبت الشيء إذا جمعته ، وسميت الكتيبة لاجتماعها ، فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات ، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم ، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق .

وثانيها : القرآن ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ) [الإسراء : 88] ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) [ الزخرف : 3 ] ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [ البقرة : 185 ] ، ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) [ الإسراء : 9 ] وللمفسرين فيه قولان :

أحدهما : قول ابن عباس أن القرآن والقراءة [ ص: 14 ] واحد ، كالخسران والخسارة واحد ، والدليل عليه قوله : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) [القيامة : 18] أي تلاوته ، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته .

الثاني وهو قول قتادة : أنه مصدر من قول القائل : قرأت الماء في الحوض إذا جمعته ، وقال سفيان بن عيينة : سمي القرآن قرآنا لأن الحروف جمعت فصارت كلمات ، والكلمات جمعت فصارت آيات ، والآيات جمعت فصارت سورا ، والسور جمعت فصارت قرآنا ، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين . فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية .

وثالثها : الفرقان ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ) [الفرقان : 1] ( وبينات من الهدى والفرقان ) [البقرة : 185] واختلفوا في تفسيره ، فقيل : سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقا أنزله في نيف وعشرين سنة ، ودليله قوله تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) [الإسراء : 106] ونزلت سائر الكتب جملة واحدة ، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ) [الفرقان : 32] وقيل : سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والمجمل والمبين ، والمحكم والمؤول ، وقيل : الفرقان هو النجاة ، وهو قول عكرمة والسدي ، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة ، وعليه حمل المفسرون قوله : ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ) [البقرة : 53] .

ورابعها : الذكر ، والتذكرة ، والذكرى ، أما الذكر : ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) [الأنبياء : 50] ( إنا نحن نزلنا الذكر ) [الحجر : 9] . ( وإنه لذكر لك ولقومك ) [الزخرف : 44] وفيه وجهان :

أحدهما : أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره .

والثاني : أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به ، وأنه شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، وأما التذكرة فقوله : ( وإنه لتذكرة للمتقين ) [الحاقة : 48] وأما الذكرى فقوله تعالى : ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [الذاريات : 55] .

وخامسها : التنزيل ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين ) [الشعراء : 192-193] .

وسادسها : الحديث ( الله نزل أحسن الحديث كتابا ) [الزمر : 23] سماه حديثا ؛ لأن وصوله إليك حديث ، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به ، فإن الله خاطب به المكلفين .

وسابعها : الموعظة ( ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) [يونس : 57] وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى ، والآخذ جبريل ، والمستملي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف لا تقع به الموعظة .

وثامنها : الحكم ، والحكمة ، والحكيم ، والمحكم ، أما الحكم فقوله : ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ) [الرعد : 37] وأما الحكمة فقوله : ( حكمة بالغة ) [القمر : 5] ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) [الأحزاب : 34] وأما الحكيم فقوله : ( يس والقرآن الحكيم ) [ يس : 1 ، 2 ] وأما المحكم فقوله : ( كتاب أحكمت آياته ) [ هود : 1 ] واختلفوا في معنى الحكمة ، فقال الخليل : هو مأخوذ من الإحكام والإلزام ، وقال المؤرج : هو مأخوذ من حكمة اللجام ؛ لأنها تضبط الدابة ، والحكمة تمنع من السفه .

وتاسعها : الشفاء ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) [ الإسراء : 82 ] وقوله : ( وشفاء لما في الصدور ) [يونس : 57] وفيه وجهان :

أحدهما : أنه شفاء من الأمراض .

والثاني : أنه شفاء من مرض [ ص: 15 ] الكفر ، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض ، فقال : ( في قلوبهم مرض ) [البقرة : 10] وبالقرآن يزول كل شك عن القلب ، فصح وصفه بأنه شفاء .

وعاشرها : الهدى ، والهادي : أما الهدى فلقوله : ( هدى للمتقين ) [البقرة : 2] ( هدى للناس ) [البقرة : 185] ( وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) [يونس : 57] وأما الهادي ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) [ الإسراء : 9 ] وقالت الجن : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ) [الجن : 1] .

الحادي عشر : الصراط المستقيم : قال ابن عباس في تفسيره : إنه القرآن ، وقال : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) [الأنعام : 153] .

والثاني عشر : الحبل : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ) [آل عمران : 103] في التفسير : إنه القرآن ، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا ، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك ، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عصمة فقال : " إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به " لأنه يعصم الناس من المعاصي .

الثالث عشر : الرحمة ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) [الإسراء : 82] وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات .

الرابع عشر : الروح ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) [الشورى : 52] ( ينزل الملائكة بالروح من أمره ) [النحل : 2] وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح ، وسمي جبريل بالروح ( فأرسلنا إليها روحنا ) [مريم : 17] وعيسى بالروح ( ألقاها إلى مريم وروح منه ) [النساء : 171] .

الخامس عشر : القصص ( نحن نقص عليك أحسن القصص ) [يوسف : 3] سمي به لأنه يجب اتباعه ( وقالت لأخته قصيه ) [القصص : 11] أي اتبعي أثره ؛ أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين ، ومنه قوله تعالى : ( إن هذا لهو القصص الحق ) [آل عمران : 62] .

السادس عشر : البيان ، والتبيان ، والمبين : أما البيان فقوله : ( هذا بيان للناس ) [آل عمران : 138] والتبيان فهو قوله : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) [النحل : 89] وأما المبين فقوله : ( تلك آيات الكتاب المبين ) [يوسف : 1] .

السابع عشر : البصائر ( هذا بصائر من ربكم ) [الأعراف : 203] أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيها بالبصر الذي يرى طريق الخلاص .

الثامن عشر : الفصل ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل ) [الطارق : 13-14] واختلفوا فيه ، فقيل معناه القضاء ، لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوما إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار ، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة ، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار .

[ ص: 16 ] التاسع عشر : النجوم ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) [الواقعة : 75] ( والنجم إذا هوى ) [النجم : 1] لأنه نزل نجما نجما .

العشرون : المثاني : ( مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ) [الزمر : 23] قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار .

الحادي والعشرون : النعمة : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) [الضحى : 11] قال ابن عباس يعني به القرآن .

الثاني والعشرون : البرهان ( قد جاءكم برهان من ربكم ) [النساء : 174] وكيف لا يكون برهانا وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله .

الثالث والعشرون : البشير والنذير ، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل : ( مبشرين ومنذرين ) [البقرة : 213] وقال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ) [الفتح : 8] وقال في صفة القرآن في حم السجدة ( بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم ) [فصلت : 4] يعني مبشرا بالجنة لمن أطاع وبالنار منذرا لمن عصى ، ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن .

الرابع والعشرون : القيم ( قيما لينذر بأسا شديدا ) [الكهف : 2] والدين أيضا قيم ( ذلك الدين القيم ) [التوبة : 36] والله سبحانه هو القيوم ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) [البقرة : 255] وإنما سمي قيما لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة .

الخامس والعشرون : المهيمن ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) [المائدة : 48] وهو مأخوذ من الأمين ، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في الدنيا والآخرة ، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) [البقرة : 143] .

السادس والعشرون : الهادي ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) [الإسراء : 9] وقال : ( يهدي إلى الرشد ) [الجن : 2] والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر " النور الهادي " .

السابع والعشرون : النور ( الله نور السماوات والأرض ) [النور : 35] وفي القرآن ( واتبعوا النور الذي أنزل معه ) [الأعراف : 157] يعني القرآن وسمي الرسول نورا ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) [المائدة : 15] يعني محمدا وسمي دينه نورا ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ) [الصف : 8] وسمي بيانه نورا ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) [الزمر : 22] وسمي التوراة نورا ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) [المائدة : 44] وسمي الإنجيل نورا ( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ) [المائدة : 46] وسمى الإيمان نورا ( يسعى نورهم بين أيديهم ) [الحديد : 12] .

الثامن والعشرون : الحق : ورد في الأسماء " الباعث الشهيد الحق " والقرآن حق ( وإنه لحق اليقين ) [الحاقة : 51] فسماه الله حقا ؛ لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) [الأنبياء : 18] أي ذاهب زائل . [ ص: 17 ] التاسع والعشرون : العزيز ( وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) [الشعراء : 9] وفي صفة القرآن ( وإنه لكتاب عزيز ) [فصلت : 41] والنبي عزيز ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ) والأمة عزيزة ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [المنافقون : 8] فرب عزيز أنزل كتابا عزيزا على نبي عزيز لأمة عزيزة ، وللعزيز معنيان :

أحدهما : القاهر ، والقرآن كذلك ؛ لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته .

والثاني : أن لا يوجد مثله .

الثلاثون : الكريم ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون ) [الواقعة : 77] واعلم أنه تعالى سمى سبعة أشياء بالكريم ( ما غرك بربك الكريم ) [الانفطار : 60] إذ لا جواد أجود منه ، والقرآن بالكريم ، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه ، وسمى موسى كريما ( وجاءهم رسول كريم ) [الدخان : 17] وسمى ثواب الأعمال كريما ( فبشره بمغفرة وأجر كريم ) [يس : 11] وسمى عرشه كريما ( لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) [النمل : 26] لأنه منزل الرحمة ، وسمى جبريل كريما ( إنه لقول رسول كريم ) [الحاقة : 40] ومعناه أنه عزيز ، وسمى كتاب سليمان كريما ( إني ألقي إلي كتاب كريم ) [النمل : 29] فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة ، فإذا تمسكوا به نالوا ثوابا كريما .

الحادي والثلاثون : العظيم : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) [الحجر : 87] واعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيما فقال : ( وهو العلي العظيم ) [البقرة : 255] وعرشه عظيما ( وهو رب العرش العظيم ) [التوبة : 129] وكتابه عظيما ( والقرآن العظيم ) [الحجر : 87] ويوم القيامة عظيما ( ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [المطففين : 5-6] والزلزلة عظيمة ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم ) [الحج : 1] وخلق الرسول عظيما ( وإنك لعلى خلق عظيم ) [القلم : 4] والعلم عظيما ( وكان فضل الله عليك عظيما ) [النساء : 113] وكيد النساء عظيما ( إن كيدكن عظيم ) [يوسف : 28] وسحر سحرة فرعون عظيما ( وجاءوا بسحر عظيم ) [الأعراف : 116] وسمى نفس الثواب عظيما ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) [الفتح : 29] وسمى عقاب المنافقين عظيما ( ولهم عذاب عظيم ) [آل عمران : 176] .

الثاني والثلاثون : المبارك : ( وهذا ذكر مبارك ) [الأنبياء : 50] وسمى الله تعالى به أشياء ، فسمى الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركا ( في البقعة المباركة من الشجرة ) [القصص : 30] وسمى شجرة الزيتون مباركة ( يوقد من شجرة مباركة زيتونة ) [التوبة : 35] لكثرة منافعها ، وسمى عيسى مباركا ( وجعلني مباركا ) [مريم : 31] وسمى المطر مباركا ( ونزلنا من السماء ماء مباركا ) [ق : 9] لما فيه من المنافع ، وسمى ليلة القدر مباركة ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) [الدخان : 3] فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة .

التالي السابق


الخدمات العلمية