صفحة جزء
( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ) .

قوله تعالى : ( إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ) .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما تكلم في التوحيد ثم أردفه بتقرير أمر النبوة ، ثم تكلم في بعض تفاريع هذا الأصل ، عاد هاهنا إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع ، وكمال علمه وحكمته وقدرته تنبيها على أن المقصود الأصلي من جميع المباحث العقلية والنقلية ، وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله . وفي قوله : ( فالق الحب والنوى ) قولان : [ ص: 74 ]

القول الأول : وهو مروي عن ابن عباس ، وقول الضحاك ومقاتل : ( فالق الحب والنوى ) أي خالق الحب والنوى . قال الواحدي : ذهبوا بفالق مذهب فاطر ، وأقول : الفطر هو الشق ، وكذلك الفلق ، فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوما محضا ونفيا صرفا ، والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق ، فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود ، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه . وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق . فبهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمحدث والمبدع .

والقول الثاني : وهو قول الأكثرين : أن الفلق هو الشق ، والحب هو الذي يكون مقصودا بذاته مثل حبة الحنطة والشعير وسائر الأنواع ، والنوى هو الشيء الموجود في داخل الثمرة مثل نوى الخوخ والتمر وغيرهما .

إذا عرفت هذا فنقول : إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ، ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر . أما الشق الذي يظهر في أعلى الحبة والنواة فإنه يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، وأما الشق الذي يظهر في أسفل تلك الحبة ، فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض ، وهي المسماة بعروق الشجرة ، وتصير تلك الحبة والنواة سببا لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض .

ثم إن هاهنا عجائب :

فإحداها : أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء ؟ وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء ، فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض ؟ فلما تولد منها هاتان الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى ، علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية ، بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع .

وثانيها : أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ، ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه ، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة ، بحيث لو دلكها الإنسان بأصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء ، ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة ، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة ، فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة ، لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم .

وثالثها : أنه يتولد من تلك النواة شجرة ، ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة ، فإن قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة ، وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة ، وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش ، ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ، ويتولد على الأغصان الأوراق أولا ، ثم الأزهار والأنوار ثانيا ، ثم الفاكهة ثالثا ، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر ، مثل الجوز ، فإن قشره على الأعلى هو ذلك الأخضر ، وتحت ذلك القشر الذي يشبه الخشب ، وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب ، وتحته ذلك اللب ، وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف هو أيضا كالقشر ، وعلى جرم لطيف وهو الدهن ، وهو المقصود الأصلي ، فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة والطبائع الأربع ، يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم ، المختار القادر ، لا بتدبير الطبائع والعناصر .

ورابعها : أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة ، فالأترنج قشره حار يابس ، ولحمه بارد رطب ، [ ص: 75 ] وحماضه بارد يابس ، وبذره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس ، وماؤه ولحمه حار رطب ، فتولد هذه الطبائع المضادة والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة ، لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار .

وخامسها : أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة ، فبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز ، وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج ، وتكون الخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش ، وبعضها يكون النواة لها لب كما في نوى المشمش والخوخ ، وبعضها لا لب له كما في نوى التمر ، وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر ، بل يكون كله مطلوبا كالتين ، فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه ، وأيضا هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور ، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة ، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما ، وشكل العدس كأنه دائرة ، وشكل الحمص على وجه آخر ، فهذه الأشكال المختلفة ، لا بد وأن تكون لأسرار وحكم علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل ، وأيضا فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى ومنفعة أخرى ، وأيضا فقد تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان وسما لحيوان آخر ، فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم .

وسادسها : أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت خطا واحدا مستقيما في وسطها ، كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان ، وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في بدن الإنسان ، ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر ، ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار بسبب الصغر ، فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة ، وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى ، ولا يزال يبقى على هذا المنهج حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر ، والخالق تعالى إنما فعل ذلك حتى أن القوى الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة ، فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل ، وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل .

ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان ، علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل ، ولما علمت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل ، ثم إنه تعالى إنما خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده ، والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة ، كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . ( الذاريات : 56 ] .

فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة ، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها ، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية ، فحينئذ ينفتح عليك باب من المكاشفات لا آخر لها ، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية ، كما قال : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة ، فهذا كلام مختصر في تفسير قوله : ( إن الله فالق الحب والنوى ) ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له ، ونسأل الله التوفيق والهداية .

التالي السابق


الخدمات العلمية