صفحة جزء
( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) .

قوله تعالى : ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) .

هذا هو النوع الثالث من الدلائل الدالة على كمال القدرة والرحمة والحكمة ، وهو أنه تعالى خلق هذه النجوم لمنافع العباد ، وهي من وجوه :

الوجه الأول : أنه تعالى خلقها لتهتدي الخلق بها إلى الطرق والمسالك في ظلمات البر والبحر ، حيث لا يرون شمسا ولا قمرا ؛ لأن عند ذلك يهتدون بها إلى المسالك والطرق التي يريدون المرور فيها .

الوجه الثاني : وهو أن الناس يستدلون بأحوال حركة الشمس على معرفة أوقات الصلاة ، وإنما يستدلون بحركة الشمس في النهار على القبلة ، ويستدلون بأحوال الكواكب في الليالي على معرفة القبلة .

الوجه الثالث : أنه تعالى ذكر في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء ، فقال : ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا ) [ الفرقان : 61 ] وقال تعالى : ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ) [ الصافات : 6 ] وقال : ( والسماء ذات البروج ) [ البروج : 1 ] .

الوجه الرابع : أنه تعالى ذكر في منافعها كونها رجوما للشياطين .

الوجه الخامس : يمكن أن يقال : ( لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) ، أي في ظلمات التعطيل والتشبيه ، فإن المعطل ينفي كونه فاعلا مختارا ، والمشبه يثبت كونه تعالى جسما مختصا بالمكان ، فهو تعالى خلق هذه النجوم ليهتدى بها في هذين النوعين من الظلمات ، أما الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل ، فذلك لأنا نشاهد هذه الكواكب مختلفة في صفات كثيرة ، فبعضها سيارة وبعضها ثابتة ، والثوابت بعضها في المنطقة وبعضها في القطبين ، وأيضا الثوابت لامعة والسيارة غير لامعة ، وأيضا بعضها كبيرة درية عظيمة الضوء ، وبعضها صغيرة خفية قليلة الضوء ، وأيضا قدروا مقاديرها على سبع مراتب .

إذا عرفت هذا فنقول : قد دللنا على أن الأجسام متماثلة ، وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان اختصاص كل واحد منها بصفة معينة دليلا على أن ذلك ليس إلا بتقدير الفاعل المختار ، فهذا وجه الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل . وأما وجه الاهتداء بها في ظلمات بحر التشبيه ، فلأنا نقول : إنه لا عيب يقدح في إلهية هذه [ ص: 83 ] الكواكب ، إلا أنها أجسام فتكون مؤلفة من الأجزاء والأبعاض ، وأيضا إنها متناهية ومحدودة ، وأيضا إنها متغيرة ومتحركة ومنتقلة من حال إلى حال ، فهذه الأشياء إن لم تكن عيوبا في الإلهية امتنع الطعن في إلهيتها ، وإن كانت عيوبا في الإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها ، فوجب الجزم بأن إله العالم والسماء والأرض منزه عن الجسمية والأعضاء والأبعاض والحد والنهاية والمكان والجهة ، فهذا بيان الاهتداء بهذه الكواكب في بر التعطيل وبحر التشبيه ، وهذا وإن كان عدولا عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا أنه قريب مناسب لعظمة كتاب الله تعالى .

الوجه السادس : في منافع هذه الكواكب ما ذكره الله تعالى في قوله : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) [ آل عمران : 191 ] فنبه على سبيل الإجمال على أن في وجود كل واحد منها حكمة عالية ومنفعة شريفة ، وليس كل ما لا يحيط عقلنا به على التفصيل وجب نفيه ، فمن أراد أن يقدر حكمة الله تعالى في ملكه وملكوته بمكيال خياله ومقياس قياسه فقد ضل ضلالا مبينا ، ثم إنه تعالى لما ذكر الاستدلال بأحوال هذه النجوم ، قال : ( قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) وفيه وجوه :

الأول : المراد أن هذه النجوم كما يمكن أن يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر ، فكذلك يمكن أن يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم ، وكمال قدرته وعلمه .

الثاني : أن يكون المراد من العلم هاهنا العقل فقوله : ( قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ) نظير قوله تعالى في سورة البقرة : ( إن في خلق السماوات والأرض ) [ البقرة : 164 ] إلى قوله : ( لآيات لقوم يعقلون ) وفي آل عمران في قوله : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : 190 ] .

والثالث : أن يكون المراد من قوله : ( لقوم يعلمون ) لقوم يتفكرون ويتأملون ويستدلون بالمحسوس على المعقول ، وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .

التالي السابق


الخدمات العلمية