صفحة جزء
[ ص: 92 ]

( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ) .

قوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ) .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية ، وكمال القدرة والرحمة ، ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء ، واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور هاهنا غير ما تقدم ذكره ، وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف .

فالطائفة الأولى : عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية ، ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين .

والطائفة الثانية : من المشركين الذين يقولون : مدبر هذا العالم هو الكواكب ، وهؤلاء فريقان منهم من يقول : إنها واجبة الوجود لذاتها ، ومنهم من يقول : إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة ، وخالقها هو الله تعالى ، إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها ، وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل - صلى الله عليه وسلم - ناظرهم بقوله : ( لا أحب الآفلين ) وشرح هذا الدليل قد مضى .

والطائفة الثالثة : من المشركين الذين قالوا : لجملة هذا العالم بما فيه من السماوات والأرضين إلهان : أحدهما فاعل الخير ، والثاني فاعل الشر ، والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء ، فهذا تقرير نظم الآية والتنبيه على ما فيها من الفوائد ، فروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : قوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) نزلت في الزنادقة الذين قالوا : إن الله وإبليس أخوان ؛ فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات ، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور .

واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية ، وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة ، قال ابن عباس : والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) [ الصافات : 158 ] وإنما وصف بكونه من الجن ؛ لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار ، والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون ، فصارت كأنها مستترة من العيون ، فبهذا التأويل أطلق لفظ الجن عليها ، وأقول : هذا مذهب المجوس ، وإنما قال ابن عباس : هذا قول الزنادقة ؛ لأن المجوس يلقبون بالزنادقة ؛ لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند ، والمنسوب إليه يسمى زندي . ثم عرب فقيل زنديق . ثم جمع فقيل زنادقة .

[ ص: 93 ] واعلم أن المجوس قالوا : كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن ، وهو المسمى بإبليس في شرعنا ، ثم اختلفوا ؛ فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة ، والأقلون منهم قالوا : إنه قديم أزلي ، وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم ، فخيرات هذا العالم من الله تعالى ، وشروره من إبليس ؛ فهذا شرح ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - .

فإن قيل : فعلى هذا التقدير : القوم أثبتوا لله شريكا واحدا وهو إبليس ، فكيف حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء ؟

والجواب : أنهم يقولون : عسكر الله هم الملائكة ، وعسكر إبليس هم الشياطين ، والملائكة فيهم كثرة عظيمة ، وهم أرواح طاهرة مقدسة ، وهم يلهمون تلك الأرواح البشرية بالخيرات والطاعات . والشياطين أيضا فيهم كثرة عظيمة ، وهي تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية ، والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين ، فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن ؛ فهذا تفصيل هذا القول .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( وخلقهم ) إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكا لله تعالى في ملكه ، وتقريره من وجهين :

الأول : أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث .

إذا ثبت هذا فنقول : إن كل محدث فله خالق وموجد ، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى ، فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى ، ولما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح ، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى ، فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد ، وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين ، يكون أحدهما فاعلا للخيرات ، والثاني يكون فاعلا للشرور ؛ لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق ، لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى : ( وخلقهم ) إشارة إلى أنه تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس ، وإذا كان خالقا لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلا لأعظم الشرور ، وإذا اعترفوا بذلك وسقط قولهم : لا بد للخيرات من إله ، وللشرور من إله آخر .

والوجه الثاني : في استنباط الحجة من قوله : ( وخلقهم ) ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب " الأربعين في أصول الدين " أن ما سوى الواحد ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو محدث ، ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث ، فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث ، وحصول الوجود بعد العدم ، وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه ، فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية