( 
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم   ) . 
قوله تعالى : ( 
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم   ) . 
اعلم أنه تعالى لما بين فساد قول طوائف أهل الدنيا من المشركين . شرع في إقامة الدلائل على 
فساد قول من يثبت له الولد فقال : ( 
بديع السماوات والأرض   ) . 
واعلم أن تفسير قوله : ( 
بديع السماوات والأرض   ) قد تقدم في سورة البقرة إلا أنا نشير هاهنا إلى ما هو المقصود الأصلي من هذه الآية . فنقول : 
الإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال ، ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها ، يقال : إنه أبدع فيه .  
[ ص: 97 ] إذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى سلم 
للنصارى  أن 
عيسى  حدث من غير أب ولا نطفة ، بل إنه إنما حدث ودخل في الوجود ؛ لأن الله تعالى أخرجه إلى الوجود من غير سبق الأب . 
إذا عرفت هذا فنقول : المقصود من الآية أن يقال : إنكم إما أن تريدوا بكونه ولدا لله تعالى أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله تعالى كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولدا لأبيه ، وإما أن تريدوا بكونه ولدا لله مفهوما ثالثا مغايرا لهذين المفهومين . 
أما الاحتمال الأول فباطل ، وذلك لأنه تعالى ، وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسايط مخصوصة ، إلا أن 
النصارى  يسلمون أن العالم الأسفل محدث ، وإذا كان الأمر كذلك ، لزمهم الاعتراف 
بأنه تعالى خلق السماوات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة ، وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون إحداثه للسماوات والأرض إبداعا ، فلو لزم من مجرد كونه مبدعا لإحداث 
عيسى  عليه السلام كونه والدا له لزم من كونه مبدعا للسماوات والأرض كونه والدا لهما ، ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق ، فثبت أن مجرد كونه مبدعا 
لعيسى  عليه السلام لا يقتضي كونه والدا له ، فهذا هو المراد من قوله : ( 
بديع السماوات والأرض   ) وإنما ذكر السماوات والأرض فقط ولم يذكر ما فيهما لأن 
حدوث ما في السماوات والأرض ليس على سبيل الإبداع ، أما حدوث ذات السماوات والأرض فقد كان على سبيل الإبداع ، فكان المقصود من الإلزام حاصلا بذكر السماوات والأرض ، لا بذكر ما في السماوات والأرض ، فهذا إبطال الوجه الأول . 
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات ، فهذا أيضا باطل ، ويدل عليه وجوه : 
الوجه الأول : أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة ، وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق ، والحركة والسكون ، والحد والنهاية ، والشهوة واللذة ، وكل ذلك على خالق العالم محال ، وهذا هو المراد من قوله : ( 
أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة   ) . 
والوجه الثاني : أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة ، فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد ، أما من كان خالقا لكل الممكنات قادرا على كل المحدثات ، فإذا أراد إحداث شيء قال له : كن فيكون ، ومن كان هذا الذي ذكرنا صفته ونعته ، امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة ، وهذا هو المراد من قوله : ( 
وخلق كل شيء   ) . 
والوجه الثالث : وهو أن هذا الولد إما أن يكون قديما أو محدثا ، لا جائز أن يكون قديما ؛ لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته ، وما كان واجب الوجود لذاته كان غنيا عن غيره ؛ فامتنع كونه ولدا لغيره ، فبقي أنه لو كان ولدا لوجب كونه حادثا ، فنقول : إنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا ونفعا أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك ، فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله تعالى خلق هذا الولد   
[ ص: 98 ] فيه إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبل ذلك ، ومتى كان الداعي إلى إيجاده حاصلا قبله وجب حصول الولد قبل ذلك ، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليا وهو محال ، وإن كان الثاني فقد ثبت أنه تعالى عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الإلهية ، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدثه البتة في وقت من الأوقات ، وهذا هو المراد من قوله : ( 
وهو بكل شيء عليم   ) . 
وفيه وجه آخر ، وهو أن يقال : الولد المعتاد إنما يحدث بقضاء الشهوة ، وقضاء الشهوة يوجب اللذة ، واللذة مطلوبة لذاتها ، فلو صحت اللذة على الله تعالى مع أنها مطلوبة لذاتها ، وجب أن يقال : إنه لا وقت إلا وعلم الله بتحصيل تلك اللذة يدعوه إلى تحصيلها قبل ذلك الوقت ؛ لأنه تعالى لما كان عالما بكل المعلومات وجب أن يكون هذا المعنى معلوما ، وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يحصل تلك اللذة في الأزل ، فلزم كون الولد أزليا ، وقد بينا أنه محال ؛ فثبت أن كونه تعالى عالما بكل المعلومات مع كونه تعالى أزليا يمنع من صحة الولد عليه ، وهذا هو المراد من قوله : ( 
وهو بكل شيء عليم   ) فثبت بما ذكرنا أنه لا يمكن 
إثبات الولد لله تعالى بناء على هذين الاحتمالين المعلومين ، فأما إثبات الولد لله تعالى بناء على احتمال ثالث فذلك باطل ؛ لأنه غير متصور ولا مفهوم عند العقل ، فكان القول بإثبات الولادة بناء على ذلك الاحتمال الذي هو غير متصور خوضا في محض الجهالة وأنه باطل ، فهذا هو المقصود من هذه الآية ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاما يساويه في القوة والكمال لعجزوا عنه ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .