صفحة جزء
المسألة الثانية : في حكاية استدلال المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية .

اعلم أنهم يحتجون بهذه الآية من وجهين :

الأول : أنهم قالوا : الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية ، بدليل أن قائلا لو قال : أدركته ببصري وما رأيته ، أو قال : رأيته وما أدركته ببصري ، فإنه يكون كلامه متناقضا ، فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية .

[ ص: 104 ] إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال ، والدليل على صحة هذا العموم وجهان :

الأول : يصح استثناء جميع الأشخاص وجميع الأحوال عنه فيقال : لا تدركه الأبصار إلا بصر فلان ، وإلا في الحالة الفلانية ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله ؛ فثبت أن عموم هذه الآية يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص في جميع الأحوال ، وذلك يدل على أن أحدا لا يرى الله تعالى في شيء من الأحوال .

الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية تفيد العموم : أن عائشة - رضي الله عنها - لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج تمسكت في نصرة مذهب نفسها بهذه الآية ، ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال ، ولا شك أنها كانت من أشد الناس علما بلغة العرب ؛ فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص ، وذلك يفيد المطلوب .

الوجه الثاني : في تقرير استدلال المعتزلة بهذه الآية أنهم قالوا : إن ما قبل هذه الآية إلى هذا الموضع مشتمل على المدح والثناء ، وقوله بعد ذلك : ( وهو يدرك الأبصار ) أيضا مدح وثناء ، فوجب أن يكون قوله : ( لا تدركه الأبصار ) مدحا وثناء ، وإلا لزم أن يقال : إن ما ليس بمدح وثناء وقع في خلال ما هو مدح وثناء ، وذلك يوجب الركاكة ، وهي غير لائقة بكلام الله .

إذا ثبت هذا فنقول : كل ما كان عدمه مدحا ، ولم يكن ذلك من باب الفعل ، كان ثبوته نقصا في حق الله تعالى ، والنقص على الله تعالى محال ؛ لقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] وقوله : ( ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] وقوله : ( لم يلد ولم يولد ) [ الإخلاص : 3 ] إلى غير ذلك ؛ فوجب أن يقال كونه تعالى مرئيا محال .

واعلم أن القوم إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من باب الفعل ؛ لأنه تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله : ( وما الله يريد ظلما للعالمين ) [ آل عمران : 108 ] وقوله : ( وما ربك بظلام للعبيد ) [ فصلت : 46 ] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم ، فذكروا هذا القيد دفعا لهذا النقض عن كلامهم ؛ فهذا غاية تقرير كلامهم في هذا الباب .

والجواب عن الوجه الأول من وجوه :

الأول : لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية ، والدليل عليه : أن لفظ الإدراك في أصل اللغة عبارة عن اللحوق والوصول ، قال تعالى : ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) [ الشعراء : 61 ] أي لملحقون ؛ وقال : ( حتى إذا أدركه الغرق ) [ يونس : 90 ] أي لحقه ، ويقال : أدرك فلان فلانا ، وأدرك الغلام أي بلغ الحلم ، وأدركت الثمرة أي نضجت ؛ فثبت أن الإدراك هو الوصول إلى الشيء .

إذا عرفت هذا فنقول : المرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته ؛ صار كأن ذلك الإبصار أحاط به ؛ فتسمى هذه الرؤية إدراكا ، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكا ؛ فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان : رؤية مع الإحاطة ، ورؤية لا مع الإحاطة ، والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية ، ونفي النوع لا يوجب نفي الجنس ، فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عن الله تعالى ، فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم .

[ ص: 105 ] قلنا : هذا بعيد ؛ لأن الإدراك أخص من الرؤية ، وإثبات الأخص يوجب إثبات الأعم ، وأما نفي الأخص لا يوجب نفي الأعم ، فثبت أن البيان الذي ذكرناه يبطل كلامكم ولا يبطل كلامنا .

الوجه الثاني : في الاعتراض أن نقول : هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية ، لكن لم قلتم أن قوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص ، وعن كل الأحوال ، وفي كل الأوقات ؟ وأما الاستدلال بصحة الاستثناء على عموم النفي فمعارض بصحة الاستثناء عن جمع القلة ، مع أنها لا تفيد عموم النفي بل نسلم أنه يفيد العموم إلا أن نفي العموم غير ، وعموم النفي غير ، وقد دللنا على أن هذا اللفظ لا يفيد إلا نفي العموم ، وبينا أن نفي العموم يوجب ثبوت الخصوص ، وهذا هو الذي قررناه في وجه الاستدلال ، وأما قوله : إن عائشة - رضي الله عنها - تمسكت بهذه الآية في نفي الرؤية ؛ فنقول : معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة ، فأما كيفية الاستدلال بالدليل فلا يرجع فيه إلى التقليد ، وبالجملة فالدليل العقلي دل على أن قوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد نفي العموم ، وثبت بصريح العقل أن نفي العموم مغاير لعموم النفي ، ومقصودهم إنما يتم لو دلت الآية على عموم النفي ، فسقط كلامهم .

الوجه الثالث : أن نقول صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق ، فقد تحمل على المعهود السابق أيضا ، وإذا كان كذلك فقوله : ( لا تدركه الأبصار ) يفيد أن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه ، ونحن نقول بموجبه ؛ فإن هذه الأبصار وهذه الأحداق ما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى ، وإنما تدرك الله تعالى إذا تبدلت صفاتها ، وتغيرت أحوالها فلم قلتم أن عند حصول هذه التغيرات لا تدرك الله ؟ .

الوجه الرابع : سلمنا أن الأبصار البتة لا تدرك الله تعالى ، فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما كان ضرار بن عمرو يقول به ؟ وعلى هذا التقدير فلا يبقى في التمسك بهذه الآية فائدة .

الوجه الخامس : هب أن هذه الآية عامة ، إلا أن الآيات الدالة على إثبات رؤية الله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام ، وحينئذ ينتقل الكلام من هذا المقام إلى بيان أن تلك الآيات هل تدل على حصول رؤية الله تعالى أم لا ؟ .

الوجه السادس : أن نقول بموجب الآية ، فنقول : سلمنا أن الأبصار لا تدرك الله تعالى ، فلم قلتم : إن المبصرين لا يدركون الله تعالى ؟ فهذا مجموع الأسئلة على الوجه الأول ، وأما الوجه الثاني فقد بينا أنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته ، بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته ، ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته ، وبهذا الطريق يسقط كلامهم بالكلية ، ثم نقول : إن النفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء ، وذلك لأن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا للمدح والثناء ، والعلم به ضروري ، بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح والثناء ؛ قيل : بأن ذلك النفي يوجب المدح . ومثاله أن قوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] لا يفيد المدح نظرا إلى هذا النفي ، فإن الجماد لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه [ ص: 106 ] تعالى عالما بجميع المعلومات أبدا من غير تبدل ولا زوال ، وكذلك قوله : ( وهو يطعم ولا يطعم ) [ الأنعام : 14 ] يدل على كونه قائما بنفسه ، غنيا في ذاته ؛ لأن الجماد أيضا لا يأكل ولا يطعم .

إذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( لا تدركه الأبصار ) يمتنع أن يفيد المدح والثناء إلا إذا دل على معنى موجود يفيد المدح والثناء ، وذلك هو الذي قلناه ، فإنه يفيد كونه تعالى قادرا على حجب الأبصار ومنعها عن إدراكه ورؤيته ، وبهذا التقرير فإن الكلام ينقلب عليهم حجة ؛ فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية من كل الوجوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية