صفحة جزء
المسألة الثالثة : اعلم أن القاضي ذكر في تفسيره وجوها أخرى تدل على نفي الرؤية ، وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية ، ومنفصلة عن علم التفسير ، وخوض في علم الأصول ، ولما فعل القاضي ذلك فنحن ننقلها ونجيب عنها ، ثم نذكر لأصحابنا وجوها دالة على صحة الرؤية ؛ أما القاضي فقد تمسك بوجوه عقلية :

أولها : أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرا ، وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة وهي أن لا يحصل القرب القريب ، ولا البعد البعيد ، ولا يحصل الحجاب ، ويكون المرئي مقابلا أو في حكم المقابل فإنه يجب حصول الرؤية ، إذ لو جاز مع حصول هذه الأمور أن لا تحصل الرؤية جاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ، ولا نسمعها ولا نراها وذلك يوجب السفسطة .

قالوا إذا ثبت هذا فنقول : إن انتفاء القرب القريب والبعد البعيد ، والحجاب وحصول المقابلة في حق الله تعالى ممتنع ، فلو صحت رؤيته لوجب أن يكون المقتضي لحصول تلك الرؤية هو سلامة الحاسة ، وكون المرئي تصح رؤيته ؛ وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت ، فلو كان بحيث تصح رؤيته لوجب أن تحصل رؤيته في هذا الوقت ، وحيث لم تحصل هذه الرؤية علمنا أنه ممتنع الرؤية .

والحجة الثانية : أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل ، والله تعالى ليس كذلك ، فوجب أن تمتنع رؤيته .

والحجة الثالثة : قال القاضي : ويقال لهم : كيف يراه أهل الجنة دون أهل النار ؟ إما أن يقرب منهم أو يقابلهم فيكون حالهم معه بخلاف أهل النار ، وهذا يوجب أنه جسم يجوز عليه القرب والبعد والحجاب .

والحجة الرابعة : قال القاضي : إن قلتم إن أهل الجنة يرونه في كل حال حتى عند الجماع وغيره فهو باطل ، أو يرونه في حال دون حال ، وهذا أيضا باطل ؛ لأن ذلك يوجب أنه تعالى مرة يقرب وأخرى يبعد ، وأيضا فرؤيته أعظم اللذات ، وإذا كان كذلك وجب أن يكونوا مشتهين لتلك الرؤية أبدا ، فإذا لم يروه في بعض الأوقات وقعوا في الغم والحزن ، وذلك لا يليق بصفات أهل الجنة ، فهذا مجموع ما ذكره في " كتاب التفسير " . واعلم أن هذه الوجوه في غاية الضعف .

أما الوجه الأول : فيقال له : هب أن رؤية الأجسام والأعراض عند حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط واجبة ، فلم قلتم : إنه يلزم منه أن يكون رؤية الله تعالى عند سلامة الحاسة وعند كون المرئي بحيث يصح رؤيته واجبة ؟ ألم تعلموا أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه ، والعجب من هؤلاء المعتزلة أن أولهم وآخرهم [ ص: 107 ] عولوا على هذا الدليل ، وهم يدعون الفطنة التامة والكياسة الشديدة ، ولم يتنبه أحد منهم لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام .

وأما الوجه الثاني : فيقال له : إن النزاع بيننا وبينك وقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا ؟ فإما أن تدعوا أن العلم بامتناع رؤية هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة علم بديهي أو تقولوا : إنه علم استدلالي ، والأول باطل ؛ لأنه لو كان العلم به بديهيا لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء ، وأيضا فبتقدير أن يكون هذا العلم بديهيا كان الاشتغال بذكر الدليل عبثا ، فاتركوا الاستدلال ، واكتفوا بادعاء البديهة ، وإن كان الثاني فنقول : قولكم : المرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل إعادة لعين الدعوى ؛ لأن حاصل الكلام أنكم قلتم : الدليل على أن ما لا يكون مقابلا ولا في حكم المقابل لا تجوز رؤيته ، أن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل ، ومعلوم أنه لا فائدة في هذا الكلام إلا إعادة الدعوى .

وأما الوجه الثالث : فيقال له : لم لا يجوز أن يقال إن أهل الجنة يرونه وأهل النار لا يرونه ؟ لا لأجل القرب والبعد كما ذكرت ، بل لأنه تعالى يخلق الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار ؛ فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تجويزه يفضي إلى تجويز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نراها ولا نسمعها ، كان هذا رجوعا إلى الطريقة الأولى ، وقد سبق جوابها .

وأما الوجه الرابع : فيقال : لم لا يجوز أن يقال : إن المؤمنين يرون الله تعالى في حال دون حال ؟ أما قوله فهذا يقتضي أن يقال : إنه تعالى مرة يقرب ومرة يبعد ، فيقال : هذا عود إلى أن الإبصار لا يحصل إلا عند الشرائط المذكورة ، وهو عود إلى الطريق الأول ، وقد سبق جوابه .

وقوله ثانيا : الرؤية أعظم اللذات ، فيقال له : إنها وإن كانت كذلك إلا أنه لا يبعد أن يقال : إنهم يشتهونها في حال دون حال ، بدليل أن سائر لذات الجنة ومنافعها طيبة ولذيذة ، ثم إنها تحصل في حال دون حال فكذا هاهنا ، فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها في هذا الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية