صفحة جزء
( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون )

قوله تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) هذا أيضا من الآيات الدالة على قولنا : إن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره ، والتقلب والقلب واحد ، وهو تحويل الشيء عن وجهه ، ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار : هو أنه إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها وعرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول ، إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات ، والمقصود من هذه الآية تقرير ما ذكرناه في الآية الأولى من أن تلك الآيات القاهرة لو جاءتهم لما آمنوا بها ولما انتفعوا بظهورها البتة .

أجاب الجبائي عنه بأن قال : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في دار الدنيا .

وأجاب الكعبي عنه : بأن المراد من قوله : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) بأنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم .

وأجاب القاضي : بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي قد ظهرت ، فلا تجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أولا .

واعلم أن كل هذه الوجوه في غاية الضعف ، وليس لأحد أن يعيبنا ، فيقول : إنكم تكررون هذه الوجوه في كل موضع ، فإنا نقول : إن هؤلاء المعتزلة لهم وجوه معدودة في تأويلات آيات الجزاء ، فهم يكررونها في كل آية ، فنحن أيضا نكرر الجواب عنها في كل آية ، فنقول : قد بينا أن القدرة الأصلية صالحة للضدين وللطرفين على السوية . فإذا لم ينضم على تلك القدرة داعية مرجحة امتنع حصول الرجحان ، فإذا انضمت [ ص: 121 ] الداعية المرجحة إما إلى جانب الفعل أو إلى جانب الترك ظهر الرجحان ، وتلك الداعية ليست إلا من الله تعالى قطعا للتسلسل ، وقد ظهر صحة هذه المقدمات بالدلائل القاطعة اليقينية التي لا يشك فيها العاقل ، وهذا هو المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبه كيف يشاء فالقلب كالموقوف بين داعية الفعل وبين داعية الترك ، فإن حصل في القلب داعي الفعل ترجح جانب الفعل ، وإن حصل فيه داعي الترك ترجح جانب الترك ، وهاتان الداعيتان لما كانتا لا تحصلان إلا بإيجاد الله وتخليقه وتكوينه ، عبر عنهما بأصبعي الرحمن ، والسبب في حسن هذه الاستعارة أن الشيء الذي يحصل بين أصبعي الإنسان يكون كامل القدرة عليه ، فإن شاء أمسكه ، وإن شاء أسقطه ، فهاهنا أيضا كذلك القلب واقف بين هاتين الداعيتين ، وهاتان الداعيتان حاصلتان بخلق الله تعالى ، والقلب مسخر لهاتين الداعيتين ، فلهذا السبب حسنت هذه الاستعارة ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول : يا مقلب القلوب والأبصار ، ثبت قلبي على دينك والمراد من قوله : " مقلب القلوب " أن الله تعالى يقلبه تارة من داعي الخير إلى داعي الشر ، وبالعكس .

إذا عرفت هذه القاعدة فقوله تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) محمول على هذا المعنى الظاهر الجلي الذي يشهد بصحته كل طبع سليم وعقل مستقيم ، فلا حاجة البتة إلى ما ذكروه من التأويلات المستكرهة ، وإنما قدم الله تعالى ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار ؛ لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب ، فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى ، وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه ، فهو وإن كان يبصره في الظاهر ، إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سببا للوقوف على الفوائد المطلوبة . وهذا هو المراد من قوله تعالى : ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) [ الأنعام : 25 ] فلما كان المعدن هو القلب ، وأما السمع والبصر فهما آلتان للقلب ، كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب ، فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر تقليب القلوب في هذه الآية ، ثم أتبعه بذكر تقليب البصر ، وفي الآية الأخرى وقع الابتداء بذكر تحصيل الكنان في القلب ، ثم أتبعه بذكر السمع ، فهذا هو الكلام القوي العقلي البرهاني الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ، فكيف يحسن مع ذلك حمل هذا اللفظ على التكلفات التي ذكروها ؟ ولنرجع إلى ما يليق بتلك الكلمات الضعيفة فنقول : أما الوجه الذي ذكره الجبائي فمدفوع ؛ لأن الله تعالى قال : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) ثم عطف عليه فقال : ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) ولا شك أن قوله : ( ونذرهم ) إنما يحصل في الدنيا ، فلو قلنا : المراد من قوله : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) إنما يحصل في الآخرة ، كان هذا سوءا للنظم في كلام الله تعالى ؛ حيث قدم المؤخر ، وأخر المقدم من غير فائدة ، وأما الوجه الذي ذكره الكعبي فضعيف أيضا ؛ لأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر ، فهو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرمان والخذلان ؛ فكيف تحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) .

وأما الوجه الثاني الذي ذكره القاضي فبعيد أيضا ؛ لأن المراد من قوله : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) تقليب القلب من حالة إلى حالة ، ونقله من صفة إلى صفة ، وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك ، بل القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل ، فثبت أن الوجوه التي ذكروها فاسدة باطلة بالكلية .

[ ص: 122 ]

أما قوله تعالى : ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) فقال الواحدي فيه وجهان :

الوجه الأول : دخلت الكاف على محذوف تقديره : فلا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة أتتهم الآيات ، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات ، والتقدير : فلا يؤمنون في المرة الثانية من ظهور الآيات كما لم يؤمنوا به في المرة الأولى ، وأما الكناية في " به " فيجوز أن تكون عائدة إلى القرآن ، أو إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، أو إلى ما طلبوا من الآيات .

الوجه الثاني : قال بعضهم : الكاف في قوله : ( كما لم يؤمنوا به ) بمعنى الجزاء ، ومعنى الآية ، ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى ، يعني كما لم يؤمنوا به أول مرة ، فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية ، وعلى هذا الوجه فليس في الآية محذوف ، ولا حاجة فيها إلى الإضمار .

وأما قوله تعالى : ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) فالجبائي قال : ( ونذرهم ) أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ، ولا نمنعهم من ذلك بمعاجلة الهلاك وغيره ، لكنا نمهلهم ؛ فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم ، وهو يوجب تأكيد الحجة عليهم ، وقال أصحابنا : معناه إنا نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان ، وفي ذلك الضلال والعمه .

ولقائل أن يقول للجبائي : إنك تقول : إن إله العالم ما أراد بعبيده إلا الخير والرحمة ، فلم ترك هذا المسكين حتى عمه في طغيانه ؟ ولم لا يخلصه عنه على سبيل الإلجاء والقهر ؟ أقصى ما في الباب أنه إن فعل به ذلك لم يكن مستحقا للثواب فيفوته الاستحقاق فقط ، ولكن يسلم من العقاب ، أما إذا تركه في ذلك العمه مع علمه بأنه يموت عليه ، فإنه لا يحصل استحقاق الثواب ، ويحصل له العقاب العظيم الدائم ، فالمفسدة الحاصلة عند خلق الإيمان فيه على سبيل الإلجاء مفسدة واحدة وهي فوت استحقاق الثواب ، أما المفسدة الحاصلة عند إبقائه على ذلك العمه والطغيان حتى يموت عليه فهي فوت استحقاق الثواب مع استحقاق العقاب الشديد ، والرحيم المحسن الناظر لعباده لا بد وأن يرجح الجانب الذي هو أكثر صلاحا وأقل فسادا ، فعلمنا أن إبقاء ذلك الكافر في ذلك العمه والطغيان يقدح في أنه لا يريد به إلا الخير والإحسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية