( 
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون   ) 
قوله تعالى : ( 
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون   ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ذكر مثلا يدل على حال المؤمن المهتدي ، وعلى حال الكافر الضال ، فبين أن 
المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا ، فجعل حيا بعد ذلك وأعطي نورا يهتدي به في مصالحه ، وأن 
الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها ، فيكون متحيرا على الدوام   . 
    
[ ص: 140 ] ثم قال تعالى : ( 
كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون   ) وعند هذا عادت مسألة الجبر والقدر ، فقال أصحابنا : ذلك المزين هو الله تعالى ، ودليله ما سبق ذكره من أن الفعل يتوقف على حصول الداعي، وحصوله لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى ، والداعي عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد وصلاح راجح ، فهذا الداعي لا معنى له إلا هذا التزيين ، فإذا كان موجد هذا الداعي هو الله تعالى كان المزين لا محالة هو الله تعالى ، وقالت 
المعتزلة    : ذلك المزين هو الشيطان ، وحكوا عن الحسن أنه قال : زينه لهم - والله - الشيطان . واعلم أن هذا في غاية الضعف لوجوه : 
الأول : الدليل القاطع الذي ذكرناه . 
والثاني : أن هذا المثل مذكور ليميز الله حال المسلم من الكافر فيدخل فيه الشيطان . فإن كان إقدام ذلك الشيطان على ذلك الكفر لشيطان آخر ، لزم الذهاب إلى مزين آخر إلى غير النهاية . وإلا فلا بد من مزين آخر سوى الشيطان . 
الثالث : أنه تعالى صرح بأن ذلك المزين ليس إلا هو فيما قبل هذه الآية وما بعدها ، أما قبلها فقوله : ( 
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم   ) وأما بعد هذه الآية فقوله : ( 
وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها   ) . 
المسألة الثانية : قوله : ( 
أومن كان ميتا فأحييناه   ) قرأ 
نافع    " ميتا " مشددا ، والباقون مخففا قال أهل اللغة : الميت مخففا تخفيف ميت ، ومعناهما واحد ثقل أو خفف . 
المسألة الثالثة : قال أهل المعاني : قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله : ( 
أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون   ) [ النحل : 21 ] وأيضا في قوله : ( 
لينذر من كان حيا   ) [ يس : 70 ] وفي قوله : ( 
إنك لا تسمع الموتى   ) [ النمل : 80 ] وفي قوله : ( 
وما يستوي الأعمى والبصير   ) [ فاطر : 19 ] ( 
وما يستوي الأحياء ولا الأموات   ) [ فاطر : 22 ] فلما جعل الكفر موتا والكافر ميتا ، جعل الهدى حياة والمهتدي حيا ، وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل ، والجهل يوجب الحيرة والوقفة ، فهو كالموت الذي يوجب السكون ، وأيضا الميت لا يهتدي إلى شيء ، والجاهل كذلك ، والهدى علم وبصر ، والعلم والبصر سبب لحصول الرشد والفوز بالنجاة ، وقوله : ( 
وجعلنا له نورا يمشي به في الناس   ) عطف على قوله ( فأحييناه ) فوجب أن يكون هذا النور مغايرا لتلك الحياة والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى أن 
الأرواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة   . فأولها : كونها مستعدة لقبول هذه المعارف ، وذلك الاستعداد الأصلي يختلف في الأرواح ، فربما كانت الروح موصوفة باستعداد كامل قوي شريف ، وربما كان ذلك الاستعداد قليلا ضعيفا ويكون صاحبه بليدا ناقصا . 
والمرتبة الثانية : أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية ، وهي المسماة بالعقل . 
والمرتبة الثالثة : أن يحاول ذلك الإنسان تركيب تلك البديهيات ، ويتوصل بتركيبها إلى تعرف المجهولات الكسبية ، إلا أن تلك المعارف ربما لا تكون حاضرة بالفعل ، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها ، يقدر عليه . 
والمرتبة الرابعة : أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل ، ويكون جوهر ذلك الروح مشرقا بتلك المعارف مستضيئا بها مستكملا بظهورها فيه . 
إذا عرفت هذا فنقول :   
[ ص: 141 ] المرتبة الأولى : وهي حصول الاستعداد فقط ، هي المسماة بالموت . 
والمرتبة الثانية : وهي أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه فهي المشار إليها بقوله : ( فأحييناه ) .
والمرتبة الثالثة : وهي تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها إلى تعرف المجهولات النظرية ، فهي المراد من قوله تعالى : ( 
وجعلنا له نورا   ) . 
والمرتبة الرابعة : وهي قوله : ( 
يمشي به في الناس   ) إشارة إلى كونه مستحضرا لتلك الجلايا القدسية ناظرا إليها ، وعند هذا تتم درجات سعادات النفس الإنسانية ، ويمكن أن يقال أيضا الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور عبارة عن إيصال نور الوحي والتنزيل به . فإنه لا بد في الإبصار من أمرين : من سلامة الحاسة ، ومن طلوع الشمس ، فكذلك البصيرة لا بد فيها من أمرين : من سلامة حاسة العقل ، ومن طلوع نور الوحي والتنزيل ، فلهذا السبب قال المفسرون : المراد بهذا النور ، القرآن . ومنهم من قال : هو نور الدين ، ومنهم من قال : هو نور الحكمة ، والأقوال بأسرها متقاربة ، والتحقيق ما ذكرناه . وأما مثل الكافر فهو كمن ( 
في الظلمات ليس بخارج منها   ) وفي قوله : ( 
ليس بخارج منها   ) دقيقة عقلية ، وهي أن الشيء إذا دام حصوله مع الشيء صار كالأمر الذاتي والصفة اللازمة له . فإذا دام كون الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية اللازمة له بعسر إزالتها عنه ، نعوذ بالله من هذه الحالة . وأيضا الواقف في الظلمات يبقى متحيرا لا يهتدي إلى وجه صلاحه فيستولي عليه الخوف والفزع ، والعجز والوقوف .