صفحة جزء
( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون )

قوله تعالى : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون )

اعلم أنه تعالى حكى عن مكر هؤلاء الكفار وحسدهم أنهم متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله ، وهذا يدل على نهاية حسدهم ، وأنهم إنما بقوا مصرين على الكفر لا لطلب الحجة والدلائل ، بل لنهاية الحسد . قال المفسرون : قال الوليد بن المغيرة : والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد ، فإني أكثر منه مالا وولدا ، فنزلت هذه الآية . وقال الضحاك : أراد كل واحد منهم أن يخص بالوحي والرسالة ، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله : ( بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ) [ المدثر : 52 ] فظاهر الآية التي نحن في تفسيرها يدل على ذلك أيضا؛ لأنه تعالى قال : ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) وهذا يدل على أن جماعة منهم كانوا يقولون هذا الكلام . وأيضا فما قبل هذه الآية يدل على ذلك أيضا ، وهو قوله : ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ) ثم ذكر عقيب تلك الآية أنهم قالوا : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) وظاهره يدل على أن المكر المذكور في الآية الأولى هو هذا الكلام الخبيث .

[ ص: 144 ] وأما قوله تعالى : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) ففيه قولان :

القول الأول : وهو المشهور ، أراد القوم أن تحصل لهم النبوة والرسالة ، كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ، ومخدومين لا خادمين .

والقول الثاني : وهو قول الحسن ، ومنقول عن ابن عباس : أن المعنى ، وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي . قالوا : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) وهو قول مشركي العرب ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : ( حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) [ الإسراء : 93 ] من الله إلى أبي جهل ، وإلى فلان وفلان كتابا على حدة ، وعلى هذا التقدير : فالقوم ما طلبوا النبوة ، وإنما طلبوا أن تأتيهم آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين كي تدل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام . قال المحققون : والقول الأول أقوى وأولى ؛ لأن قوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) لا يليق إلا بالقول الأول ، ولمن ينصر القول الثاني أن يقول : إنهم لما اقترحوا تلك الآيات القاهرة ، فلو أجابهم الله إليها وأظهر تلك المعجزات على وفق التماسهم ، لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة ، وحينئذ يصلح أن يكون قوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) جوابا على هذا الكلام .

وأما قوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) فالمعنى أن للرسالة موضعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه ، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات التي لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا وإلا فلا ، والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله تعالى .

واعلم أن الناس اختلفوا في هذه المسألة ، فقال بعضهم : النفوس والأرواح متساوية في تمام الماهية ، فحصول النبوة والرسالة لبعضها دون البعض تشريف من الله وإحسان وتفضل . وقال آخرون : بل النفوس البشرية مختلفة بجواهرها وماهياتها ، فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة . وبعضها خسيسة كدرة محبة للجسمانيات ، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول ، لم تصلح لقبول الوحي والرسالة . ثم إن القسم الأول يقع الاختلاف فيه بالزيادة والنقصان والقوة والضعف إلى مراتب لا نهاية لها ، فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة ، فمنهم من حصلت له المعجزات القوية والتبع القليل ، ومنهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان وحصل له تبع عظيم ، ومنهم من كان الرفق غالبا عليه ، ومنهم من كان التشديد غالبا عليه ، وهذا النوع من البحث فيه استقصاء ، ولا يليق ذكره بهذا الموضع وقوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) فيه تنبيه على دقيقة أخرى . وهي : أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر ، والغل والحسد .

وقوله : ( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) عين المكر والغدر والحسد ، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ؟ ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيصيبهم صغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين ، التعظيم والمنفعة ، والعقاب أيضا إنما يتم بأمرين : الإهانة والضرر . والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين ، في هذه الآية ، أما الإهانة فقوله سيصيبهم : ( صغار عند الله وعذاب شديد ) وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر ؛ لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة محمد عليه الصلاة والسلام طلبا للعز والكرامة ، فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم ، فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان ، وفي قوله : ( صغار ) [ ص: 145 ] ( عند الله ) وجوه :

الأول : أن يكون المراد أن هذا الصغار إنما يحصل في الآخرة ، حيث لا حاكم ينفذ حكمه سواه .

والثاني : أنهم يصيبهم صغار بحكم الله وإيجابه في دار الدنيا ، فلما كان ذلك الصغار هذا حاله ، جاز أن يضاف إلى " عند الله " .

الثالث : أن يكون المراد ( سيصيب الذين أجرموا صغار ) ثم استأنف . وقال : ( عند الله ) أي معد لهم ذلك ، والمقصود منه التأكيد .

الرابع : أن يكون المراد: صغار من عند الله ، وعلى هذا التقدير : فلا بد من إضمار كلمة " من " وأما بيان الضرر والعذاب ، فهو قوله : ( وعذاب شديد ) فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد ، ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية