صفحة جزء
( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون )

قوله تعالى : ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون )

اعلم أنه تعالى لما بين أنه ما عذب الكفار إلا بعد أن بعث إليهم الأنبياء والرسل بين بهذه الآية أن هذا هو العدل والحق والواجب ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : قوله : ( ذلك ) إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : الأمر ذلك .

وأما قوله : ( أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ففيه وجوه :

أحدها : أنه تعليل ، والمعنى : الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم ، وكلمة " أن " هاهنا هي التي تنصب الأفعال .

وثانيها : يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، والمعنى لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم والضمير في قوله لأنه ضمير الشأن والحديث ؛ والتقدير : لأن الشأن والحديث: لم يكن ربك مهلك القرى بظلم .

وثالثها : أن يجعل قوله : ( أن لم يكن ربك ) بدلا من قوله : ( ذلك ) كقوله : ( وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ) [ الحجر : 66 ] .

وأما قوله : ( بظلم ) ففيه وجهان :

الأول : أن يكون المعنى ، وما كان ربك مهلك القرى بسبب ظلم أقدموا عليه .

والثاني : أن يكون المراد . وما كان ربك مهلك القرى ظلما عليهم ، وهو كقوله : ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) [ هود : 117 ] في سورة هود . فعلى الوجه الأول يكون الظلم فعلا للكفار ، وعلى الثاني يكون عائدا إلى فعل الله تعالى ، والوجه الأول أليق بقولنا ؛ لأن القول الثاني يوهم أنه [ ص: 162 ] تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل كان ظالما ، وليس الأمر عندنا كذلك؛ لأنه تعالى يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله . وأما المعتزلة : فهذا القول الثاني مطابق لمذهبهم موافق لمعتقدهم . وأما أصحابنا فمن فسر الآية بهذا الوجه الثاني . قال : إنه تعالى لو فعل ذلك لم يكن ظالما لكنه يكون في صورة الظالم فيما بينا ، فوصف بكونه ظالما مجازا ، وتمام الكلام في هذين القولين مذكور في سورة هود عند قوله : ( بظلم وأهلها مصلحون ) .

وأما قوله : ( وأهلها غافلون ) فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به ، بل معناها أن لا يبين الله لهم كيفية الحال ، ولا أن يزيل عذرهم وعلتهم .

واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في إثبات أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع ، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة . قالوا : لأنها تدل على أنه تعالى لا يعذب أحدا على أمر من الأمور إلا بعد البعثة للرسول . والمعتزلة قالوا : إنها تدل من وجه آخر على أن الوجوب قد يتقرر قبل مجيء الشرع؛ لأنه تعالى قال : ( أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) فهذا الظلم إما أن يكون عائدا إلى العبد أو إلى الله تعالى ، فإن كان الأول فهذا يدل على إمكان أن يصدر منه الظلم قبل البعثة ، وإنما يكون الفعل ظلما قبل البعثة ، لو كان قبيحا وذنبا قبل بعثة الرسل ، وذلك هو المطلوب ، وإن كان الثاني فذلك يقتضي أن يكون هذا الفعل قبيحا من الله تعالى ، وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه .

التالي السابق


الخدمات العلمية