صفحة جزء
( ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )

قوله تعالى : ( ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )

[ ص: 177 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية إنعامه على عباده بالمنافع النباتية أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانية . فقال : ( ومن الأنعام حمولة وفرشا ) وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : " الواو " في قوله : ( ومن الأنعام حمولة وفرشا ) توجب العطف على ما تقدم من قوله : ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات ) والتقدير : وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا وكثر أقوالهم في تفسير الحمولة والفرش ، وأقربها إلى التحصيل وجهان :

الأول : أن الحمولة ما تحمل الأثقال ، والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش .

والثاني : الحمولة الكبار التي تصلح للحمل ، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها مثل الفرش المفروش عليها .

ثم قال تعالى : ( كلوا مما رزقكم الله ) يريد ما أحلها لكم . قالت المعتزلة : إنه تعالى أمر بأكل الرزق ، ومنع من أكل الحرام ، ينتج أن الرزق ليس بحرام .

ثم قال : ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعله أهل الجاهلية " خطوات " جمع خطوة . وهي ما بين القدمين . قال الزجاج : وفي ( خطوات الشيطان ) ثلاثة أوجه : بضم الطاء وفتحها وبإسكانها ، ومعناه : طرق الشيطان . أي لا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان .

ثم قال تعالى : ( إنه لكم عدو مبين ) أي بين العداوة ، أخرج آدم من الجنة ، وهو القائل: ( لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] .

ثم قال تعالى : ( ثمانية أزواج ) وفيه بحثان :

البحث الأول : في انتصاب قوله : ( ثمانية ) وجهان :

الأول : قال الفراء : انتصب "ثمانية " بالبدل من قوله : ( حمولة وفرشا ) .

والثاني : أن يكون التقدير : كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج .

البحث الثاني : الواحد إذا كان وحده فهو فرد ، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي زوجا ، وهما زوجان بدليل قوله : ( خلق الزوجين الذكر والأنثى ) [ النجم : 45 ] وبدليل قوله : ( ثمانية أزواج ) ثم فسرها بقوله : ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ) .

ثم قال : ( من الضأن اثنين ) يعني الذكر والأنثى ، والضأن ذوات الصوف من الغنم . قال الزجاج : وهي جمع ضائن وضائنة مثل تاجر وتاجرة . ويجمع الضأن أيضا على الضئين بكسر الضاد وفتحها ، وقوله : ( ومن المعز اثنين ) قرئ ( ومن المعز ) بفتح العين ، والمعز ذوات الشعر من الغنم . ويقال للواحد : ماعز، وللجمع : معزى، فمن قرأ " المعز " بفتح العين فهو جمع ماعز ، مثل خادم وخدم وطالب وطلب ، وحارس وحرس، ومن قرأ بسكون العين فهو أيضا جمع ماعز كصاحب وصحب ، وتاجر وتجر ، وراكب وركب، وأما انتصاب اثنين فلأن تقدير الآية أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين وقوله : ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ) نصب الذكرين بقوله : ( حرم ) والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله . قال المفسرون : إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام ، فاحتج الله تعالى على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر ، وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين ، ذكرا وأنثى .

[ ص: 178 ] ثم قال : إن كان حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما ، وإن كان حرم الأنثى ، وجب أن يكون كل إناثها حراما ، وقوله : ( أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) تقديره : إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث ، هذا ما أطبق عليه المفسرون في تفسير هذه الآية ، وهو عندي بعيد جدا ؛ لأن لقائل أن يقول : هب أن هذه الأنواع الأربعة ، أعني : الضأن ، والمعز ، والإبل ، والبقر ، محصورة في الذكور والإناث ، إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة ، بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاما أو سائر الاعتبارات ، كما أنا إذا قلنا : إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل . فإذا قيل : إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر ، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى ، ولما لم يكن هذا الكلام لازما علينا ، فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية ، ويجب على العاقل أن يذكر في تفسير كلام الله تعالى وجها صحيحا ، فأما تفسيره بالوجوه الفاسدة فلا يجوز ، والأقرب عندي فيه وجهان :

أحدهما : أن يقال : إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم ، بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي ، ولا تعرفون شريعة شارع ، فكيف تحكمون بأن هذا يحل وأن ذلك يحرم ؟

وثانيهما : أن حكمهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوص بالإبل ، فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة ، فلما لم تحكموا بهذه الأحكام في الأقسام الثلاثة ، وهي : الضأن والمعز والبقر ، فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم على التعيين ؟ فهذا ما عندي في هذه الآية والله أعلم بمراده .

ثم قال تعالى : ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ) والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول ؟ وحاصل الكلام من هذه الآية : أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء ، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة ؟ ولما بين ذلك قال : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ) قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحي؛ لأنه هو الذي غير شريعة إسماعيل ، والأقرب أن يكون هذا محمولا على كل من فعل ذلك ؛ لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا الحكم عامة ، فالتخصيص تحكم محض . قال المحققون : إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحق هذا الوعيد الشديد ، فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق . قال القاضي : ودل ذلك على أن الإضلال عن الدين مذموم ، لا يليق بالله؛ لأنه تعالى إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح ، فالذي هو أعظم منه أولى بالذم .

وجوابه : أنه ليس كل ما كان مذموما منا كان مذموما من الله تعالى . ألا ترى أن الجمع بين العبيد والإماء وتسليط الشهوة عليهم وتمكينهم من أسباب الفجور مذموم منا وغير مذموم من الله تعالى فكذا هاهنا .

ثم قال : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) قال القاضي : لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها . وقال أصحابنا : المراد منه الإخبار بأنه تعالى لا يهدي أولئك المشركين ، أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، والكلام في ترجيح أحد القولين على الآخر معلوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية