صفحة جزء
المسألة الثانية : أنه تعالى أوجب في هذه الآية أمورا خمسة : أولها : قوله : ( ألا تشركوا به شيئا ) .

واعلم أنه تعالى قد شرح فرق المشركين في هذه السورة على أحسن الوجوه ، وذلك لأن طائفة من المشركين يجعلون الأصنام شركاء لله تعالى ، وإليهم الإشارة بقوله حكاية عن إبراهيم ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين ) [ الأنعام : 74 ] .

والطائفة الثانية : من المشركين عبدة الكواكب ، وهم الذين حكى الله عنهم ، أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله : ( لا أحب الآفلين ) .

والطائفة الثالثة : الذين حكى الله تعالى عنهم : ( وجعلوا لله شركاء الجن ) [ الأنعام : 100 ] وهم القائلون بيزدان وأهرمن .

والطائفة الرابعة : الذين جعلوا لله بنين وبنات، وأقام الدلائل على فساد أقوال هؤلاء الطوائف والفرق ، فلما بين بالدليل فساد قول هؤلاء الطوائف . قال هاهنا : ( ألا تشركوا به شيئا ) .

النوع الثاني من الأشياء التي أوجبها هاهنا قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) وإنما ثنى بهذا التكليف ؛ لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ، ويتلوها نعمة الوالدين ؛ لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه وفي الظاهر هو الأبوان ، ثم نعمهما على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر .

النوع الثالث : قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد، وقوله : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) [ الإسراء : 31 ] والمراد منه النهي عن الوأد، إذ كانوا يدفنون البنات أحياء ، بعضهم للغيرة ، وبعضهم خوف الفقر ، وهو السبب الغالب ، فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله : ( نحن نرزقكم وإياهم )؛ لأنه تعالى إذا كان متكفلا برزق الوالد والولد ، فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله ، فكذلك القول في حال الولد ، قال شمر : أملق لازم ومتعد . يقال : أملق الرجل ، فهو مملق ، إذا افتقر ، فهذا لازم ، وأملق الدهر ما عنده ، إذا أفسده ، والإملاق الفساد . [ ص: 191 ] والنوع الرابع : قوله : ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) قال ابن عباس : كانوا يكرهون الزنا علانية ، ويفعلون ذلك سرا ، فنهاهم الله عن الزنا علانية وسرا ، والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين ، بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام . والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام أيضا ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل ، وفي قوله : ( ما ظهر منها وما بطن ) دقيقة ، وهي : أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته ، ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس ، وذلك باطل ؛ لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعا من عقاب الله ونحوه ، فإنه يخشى عليه من الكفر ، ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا ، دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيما لأمر الله تعالى وخوفا من عذابه ورغبة في عبوديته .

والنوع الخامس : قوله : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) .

واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين : إحداهما : أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم ، كقوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) والثانية : أنه تعالى أراد أن يستثني منه ، ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش .

إذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( إلا بالحق ) أي قتل النفس المحرمة قد يكون حقا لجرم يصدر منها . والحديث أيضا موافق له وهو قوله عليه السلام : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " والقرآن دل على سبب رابع ، وهو قوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) [ المائدة : 33 ] .

والحاصل : أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل . ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الأقسام الخمسة أتبعه باللفظ الذي يقرب إلى القلب القبول ، فقال : ( ذلكم وصاكم به ) لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة ، وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول ، ثم أتبعه بقوله : ( لعلكم تعقلون ) أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ، ومنافعها في الدين والدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية