صفحة جزء
المسألة الخامسة : احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه ، وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى ، ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم ، وكان تعالى عالما بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) ( سبأ : 20 ) فثبت بهذا أن إنظار إبليس ، وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير ، فلو كان تعالى مراعيا لمصالح العباد لامتنع أن يمهله ، وأن يمكنه من هذه المفاسد . فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلا ، ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق ، وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ، ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق ، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك .

قالت المعتزلة : اختلف شيوخنا في هذه المسألة . فقال الجبائي : إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ، ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضا ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم ) ( الصافات : 162 ) ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة .

وقال أبو هاشم : يجوز أن يضل به قوم ، ويكون خلقه جاريا مجرى خلق زيادة الشهوة ، فإن هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلا أن الامتناع منها يصير أشق ، ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب ، فكذا ههنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق ، ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه .

والجواب : أما قول أبي علي فضعيف ، وذلك لأن الشيطان لا بد وأن يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها إليه ، ويذكره ما في القبائح من أنواع اللذات والطيبات ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساويا لحاله عند عدم هذا التذكير ، وهذا التزيين . والدليل عليه العرف ، فإن الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول إليه ويواظبون على دعوته إليه ، فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتحسين والتزيين . والعلم به ضروري ، وأما قول أبي هاشم فضعيف أيضا ؛ لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلا للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعيا في إلقائه في المفسدة ، وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة ، فهو حجة أخرى لنا في أن الله تعالى لا يراعي المصلحة ، فكيف يمكنه أن يحتج [ ص: 34 ] به ؟ والذي يقرره غاية التقرير أن لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد ، ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أنه يزداد ثوابه من الله تعالى بسبب زيادة تلك المشقة ، وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة إليه البتة ، أما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات ، فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة ، فثبت فساد هذه المذاهب وأنه لا يجب على الله تعالى شيء أصلا . والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية