1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة الأعراف
  4. قوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( ثم استوى على العرش ) فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقرا على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية ، ووجوه نقلية .

أما العقلية فأمور :

أولها : أنه لو كان مستقرا على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا وإلا لزم كون العرش داخلا في ذاته وهو محال ، وكل ما كان متناهيا فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة ، والعلم بهذا الجواز ضروري ، فلو كان الباري تعالى متناهيا من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا ، ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالا .

وثانيها : لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات ، وإما أن يكون متناهيا في كل الجهات . وإما أن يكون متناهيا من بعض الجهات دون البعض والكل باطل ، فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعا .

بيان فساد القسم الأول : أنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السفلية والعلوية ، وأن تكون مخالطة للقاذورات والنجاسات ، وتعالى الله عنه ، وأيضا فعلى هذا التقدير : تكون السماوات حالة في ذاته ، وتكون الأرض أيضا حالة في ذاته .

إذا ثبت هذا فنقول : الشيء الذي هو محل السماوات ، إما أن يكون هو عين الشيء الذي هو محل الأرضين أو غيره ، فإن كان الأول لزم كون السماوات والأرضين حالتين في محل واحد من غير امتياز بين محليهما أصلا ، وكل حالين حلا في محل واحد لم يكن أحدهما ممتازا عن الآخر ، فلزم أن يقال : [ ص: 84 ] السماوات لا تمتاز عن الأرضين في الذات ، وذلك باطل ، وإن كان الثاني : لزم أن تكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال .

والثالث : وهو أن ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات ، فإما أن يقال : الشيء الذي حصل فوق هو عين الشيء الذي حصل تحت ، فحينئذ تكون الذات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة ، وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضا حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة ؟ وهو محال في بديهة العقل .

وأما إن قيل : الشيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت ، فحينئذ يلزم حصول التركيب والتبعيض في ذات الله تعالى وهو محال .

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : أنه تعالى متناه من كل الجهات . فنقول : كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنقصان في بديهة العقل ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لأجل تخصيص مخصص ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، وأيضا فإن جاز أن يكون الشيء المحدود من كل الجوانب قديما أزليا فاعلا للعالم ، فلم لا يعقل أن يقال : خالق العالم هو الشمس ، أو القمر ، أو كوكب آخر ، وذلك باطل باتفاق .

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : أنه متناه من بعض الجوانب ، وغير متناه من سائر الجوانب ، فهذا أيضا باطل من وجوه :

أحدها : أن الجانب الذي صدق عليه كونه متناهيا غير ما صدق عليه كونه غير متناه ، وإلا لصدق النقيضان معا وهو محال . وإذا حصل التغاير لزم كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض .

وثانيها : أن الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهيا ، إما أن يكون مساويا للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه ، وإما أن لا يكون كذلك ، والأول باطل ؛ لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي ، وإذا كان كذلك : فالجانب للذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهيا ، والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه .

ومتى كان الأمر كذلك كان النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفرق والتمزق على ذاته ممكنا ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، وذلك على الإله القديم محال ، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في الحيز والجهة ، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات ، وإما أن يكون متناهيا من كل الجهات ، أو كان متناهيا من بعض الجهات ، وغير متناه من سائر الجهات ، فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة ، فوجب أن نقول : القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة محال .

والبرهان الثالث : لو كان الباري تعالى حاصلا في المكان والجهة ، لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجودا مشارا إليه ، وإما أن لا يكون كذلك ، والقسمان باطلان ، فكان القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة باطلا .

أما بيان فساد القسم الأول : فلأنه لو كان المسمى بالحيز والجهة موجودا مشارا إليه ، فحينئذ يكون المسمى بالحيز والجهة بعدا وامتدادا ، والحاصل فيه أيضا يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد ، وإلا لامتنع حصوله فيه ، وحينئذ يلزم تداخل البعدين ، وذلك محال للدلائل الكثيرة المشهورة في هذا الباب ، وأيضا فيلزم من كون الباري تعالى قديما أزليا كون الحيز والجهة أزليين ، وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله تعالى ، وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل .

[ ص: 85 ] وأما بيان فساد القسم الثاني : فهو من وجهين :

أحدهما : أن العدم نفي محض ، وعدم صرف ، وما كان كذلك امتنع كونه ظرفا لغيره وجهة لغيره .

وثانيهما : أن كل ما كان حاصلا في جهة فجهته ممتازة في الحس عن جهة غيره ، فلو كانت تلك الجهة عدما محضا لزم كون العدم المحض مشارا إليه بالحس ، وذلك باطل ، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في حيز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطلين ، فوجب أن يكون القول به باطلا .

فإن قيل : فهذا أيضا وارد عليكم في قولكم : الجسم حاصل في الحيز والجهة .

فنقول : نحن على هذا الطريق لا نثبت للجسم حيزا ولا جهة أصلا البتة ، بحيث تكون ذات الجسم نافدة فيه وسارية فيه ، بل المكان عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي ، وهذا المعنى محال بالاتفاق في حق الله تعالى ، فسقط هذا السؤال .

البرهان الرابع : لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصا بالحيز والجهة ، لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ، ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز ، لزم كونه ممكنا لذاته ، ولما كان هذا محالا كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالا .

بيان المقام الأول : هو أنه لما امتنع حصول ذات الله تعالى ، إلا إذا كان مختصا بالحيز والجهة . فنقول : لا شك أن الحيز والجهة أمر مغاير لذات الله تعالى ، فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرة في تحققها إلى أمر يغايرها ، وكل ما افتقر تحققه إلى ما يغايره ، كان ممكنا لذاته .

والدليل عليه أن الواجب لذاته هو الذي لا يلزم من عدم غيره عدمه ، والمفتقر إلى الغير هو الذي يلزم من عدم غيره عدمه ، فلو كان الواجب لذاته مفتقرا إلى الغير لزم أن يصدق عليه النقيضان ، وهو محال . فثبت أنه تعالى لو وجب حصوله في الحيز لكان ممكنا لذاته ، لا واجبا لذاته ، وذلك محال .

والوجه الثاني في تقرير هذه الحجة : هو أن الممكن محتاج إلى الحيز والجهة . أما عند من يثبت الخلاء ، فلا شك أن الحيز والجهة تتقرر مع عدم التمكن ، وأما عند من ينفي الخلاء فلا ؛ لأنه وإن كان معتقدا أنه لا بد من متمكن يحصل في الجهة ، إلا أنه لا يقول بأنه لا بد لتلك الجهة من متمكن معين ، بل أي شيء كان فقد كفى في كونه شاغلا لذلك الحيز إذا ثبت هذا ، فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز ، وكان ذلك الحيز غنيا تحققه عن ذات الله تعالى . وحينئذ يلزم أن يقال : الحيز واجب لذاته غني عن غيره ، وأن يقال : ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها ، وذلك يقدح في قولنا : الإله تعالى واجب الوجود لذاته .

فإن قيل : الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه .

فنقول : هذا باطل قطعا ؛ لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق ، فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات ، وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف ؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات ، وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل [ ص: 86 ] المحسوسات ، وذلك لا يقوله عاقل .

البرهان الخامس في تقرير أنه تعالى يمتنع كونه مختصا بالحيز والجهة : نقول : الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض ، والخلاء الصرف ، وصريح العقل يشهد أن هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه البتة . وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية .

وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان الإله تعالى مختصا بحيز ، لكان محدثا ، وهذا محال ؛ فذاك محال .

وبيان الملازمة : أن الأحياز لما ثبت أنها بأسرها متساوية ، فلو اختص ذات الله تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لأجل أن مخصصا خصصه بذلك الحيز . وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث . فوجب أن يكون اختصاص ذات الله بالحيز المعين محدثا ، فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز ، وثبت أن الحصول في الحيز محدث ، وبديهة العقل شاهدة بأن ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث ، لزم القطع بأنه لو كان حاصلا في الحيز لكان محدثا ، ولما كان هذا محالا كان ذلك أيضا محالا .

فإن قالوا : الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل ، فلم لا يجوز أن يقال : ذات الله تعالى مختصة بجهة علو ؟ فنقول : هذا باطل ؛ لأن كون بعض تلك الجهات علوا وبعضها سفلا أحوال لا تحصل إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم ، فلما كان هذا العالم محدثا كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار ، بل ليس إلا الخلاء المحض ، وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه .

وأيضا لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب ؟ فلم لا يعقل أيضا أن يقال : إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب ؟ وعلى هذا التقدير فذلك اسم لا يكون قابلا للحركة والسكون ، فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام ، والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون ، والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر . والله أعلم .

البرهان السادس : لو كان الباري تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان مشارا إليه بحسب الحس ، وكل ما كان كذلك ، فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه ، وإما أن يقبل القسمة .

فإن قلنا : إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس ، مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية البتة ، كان ذلك نقطة لا تنقسم ، وجوهرا فردا لا ينقسم ، فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة ، وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء ، وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك ، والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ ، فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل .

وأيضا فلو جاز ذلك ، فلم لا يعقل أن يقال : إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة ، أو ذرة ملتصقة بذنب قملة ، أو نملة ؟ ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء ، فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه .

وأما القسم الثاني : وهو أنه يقبل القسمة ، فنقول : كل ما كان كذلك فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر ، وذلك على الإله الواجب لذاته محال .

التالي السابق


الخدمات العلمية