1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة الأعراف
  4. قوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش
صفحة جزء
[ ص: 91 ] وأما القسم الثاني : وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه ، فهذا أيضا محال ؛ لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماسا له ، وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول .

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال إنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية ، فهذا أظهر فسادا من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مباينا للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ، ومحصورا بين هذين الحاصرين ، والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعدا غير متناه .

فإن قيل : أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد ، فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين ؛ أحدهما الأزل ، والثاني أول وجود العالم ، ولم يلزم من كون هذا التقدم محصورا بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية ، فكذا ههنا ؟ وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم .

والجواب : أن هذا هو محض المغالطة ؛ لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم ، فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدودا بين حدين ومحصورا بين حاصرين ، وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه . بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين البتة .

إذا عرفت هذا فنقول : إما أن نقول : أنه تعالى مختص بجهة معينة ، وحاصل في حيز معين ، وإما أن لا نقول ذلك ، فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدودا بين ذينك الحدين ، والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه ؛ لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف ، وكونه محصورا بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف ، والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال . ونظيره ما ذكرناه : أنا متى عينا قبل العالم وقتا معينا كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعدا متناهيا لا محالة . وأما إن قلنا بالقسم الثاني : وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة ، فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة ؛ لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ، ونظير هذا قول من يقول : الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث ، فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل .

الحجة الخامسة عشرة : أنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان : إما السطح الباطن من الجسم الحاوي ، وإما البعد المجرد والفضاء الممتد ، وليس يعقل في المكان قسم ثالث .

إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المكان هو الأول ، فنقول : ثبت أن أجسام العالم متناهية ، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة ، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم . وإن كان المكان هو الثاني ، فنقول : طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية ، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز ، وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون ، وكل ما كان كذلك كان محدثا [ ص: 92 ] بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول ، وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين ، فيلزم كون الإله محدثا ، وهو محال . فثبت أن القول بأنه تعالى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات .

الحجة السادسة عشرة : وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جدا ، وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت ، كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص ، وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف ، كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل ، وتقريره أن نقول : وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية ، فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط ، فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جدا . وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض ، فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة ، فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعا من التأثيرات . وأما الهواء ، فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء ، فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء ، فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس ، وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق . وأما النار ، فإنها أقل كثافة من الهواء ، فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج ، وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان . وأما الأفلاك ، فإنها ألطف من الأجرام العنصرية ، فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات .

فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيرا ، وكلما كان أقوى قوة وتأثيرا كان أقل حجمية وجرمية وجسمية ، وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظنا قويا أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك البتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة ، وهذا وإن كان بحثا استقرائيا إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزها عن الجسمية والموضع والحيز . وبالله التوفيق . فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزها عن الاختصاص بالحيز والجهة .

التالي السابق


الخدمات العلمية