صفحة جزء
( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين )

قوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين ) .

اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة والرحمة ، وعند هذا تم التكليف المتوجه إلى تحصيل المعارف النفسانية ، والعلوم الحقيقية ، أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع ، فإن الدعاء مخ العبادة ، فقال : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : ( ادعوا ربكم ) فيه قولان :

قال بعضهم : " اعبدوا " .

وقال آخرون : هو الدعاء .

ومن قال بالأول عقل من الدعاء أنه طلب الخير من الله تعالى ، وهذه صفة العبادة ؛ لأنه يفعل تقربا وطلبا للمجازاة لأنه تعالى عطف عليه قوله : ( وادعوه خوفا وطمعا ) والمعطوف ينبغي أن يكون مغايرا للمعطوف عليه . والقول الثاني هو الأظهر ؛ لأن الدعاء مغاير للعبادة في المعنى .

إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في الدعاء ، فمنهم من أنكره . واحتج على صحة قوله بأشياء :

الأول : أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع لامتناع وقوع التغيير في علم الله تعالى ، وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة ، وإن كان معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة أيضا في طلبه .

الثاني : أنه تعالى إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب ، فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أو لم يحصل ، وإن كان قد أراد في الأزل أن لا يعطيه فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الطلب ، وإن قلنا أنه ما أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنه عند ذلك الدعاء ، صار مريدا له لزم وقوع التغير في ذات الله وفي صفاته ، وهو محال ؛ لأن على هذا التقدير : يصير إقدام العبد على الدعاء علة لحدوث صفة في ذات الله تعالى ، فيكون العبد متصرفا في صفة الله بالتبديل والتغيير ، وهو محال .

والثالث : أن المطلوب بالدعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه ، فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدعاء [ ص: 105 ] لأنه منزه عن أن يكون بخيلا ، وإن اقتضت الحكمة منعه ، فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدعاء أو لم يقدم عليه .

والرابع : أن الدعاء غير الأمر ، ولا تفاوت بين البابين إلا كون الداعي أقل رتبة ، وكون الآمر أعلى رتبة ، وإقدام العبد على أمر الله سوء أدب ، وأنه لا يجوز .

الخامس : الدعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب ، وذلك سوء أدب ، أو أنه ينبه الإله على شيء ما كان منتبها له وذلك كفر ، وأنه تعالى قصر في الإحسان والفضل ، فأنت بهذا تحمله على الإقدام على الإحسان والفضل ، وذلك جهل .

السادس : أن الإقدام على الدعاء يدل على كونه غير راض بالقضاء إذ لو رضي بما قضاه الله عليه لترك تصرف نفسه ولما طلب من الله شيئا على التعيين ، وترك الرضا بالقضاء أمر من المنكرات .

السابع : كثيرا ما يظن العبد بشيء كونه نافعا وخيرا ، ثم إنه عند دخوله في الوجود يصير سببا للآفات الكثيرة والمفاسد العظيمة ، وإذا كان كذلك كان طلب الشيء المعين من الله غير جائز ، بل الأولى طلب ما هو المصلحة والخير ، وذلك حاصل من الله تعالى سواء طلبه العبد بالدعاء أو لم يطلبه . فلم يبق في الدعاء فائدة .

الثامن : أن الدعاء عبارة عن توجه القلب إلى طلب شيء من الله تعالى ، وتوجه القلب إلى طلب ذلك الشيء المعين يمنع القلب من الاستغراق في معرفة الله تعالى ، وفي محبته ، وفي عبوديته ، وهذه مقامات عالية شريفة ، وما يمنع من حصول المقامات العالية الشريفة كان مذموما .

التاسع : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال حاكيا عن الله سبحانه : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " وذلك يدل على أن الأولى ترك الدعاء .

العاشر : أن علم الحق محيط بحاجة العبد ، والعبد إذا علم أن مولاه عالم باحتياجه ، فسكت ولم يذكر تلك الحاجة كان ذلك أدخل في الأدب ، وفي تعظيم المولى مما إذا أخذ يشرح كيفية تلك الحالة ، ويطلب ما يدفع تلك الحاجة ، وإذا كان الحال على هذا الوجه في الشاهد ، وجب اعتبار مثله في حق الله سبحانه ، ولذلك يقال إن الخليل عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار ، قال جبريل عليه السلام : ادع ربك ، فقال الخليل عليه السلام : حسبي من سؤالي علمه بحالي . فهذه الوجوه هي المذكورة في هذا الباب .

واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ، والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات ، فإنه يقال إن كان هذا الإنسان سعيدا في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات والعبادات ، وإن كان شقيا في علمه فلا فائدة في تلك العبادات ، وأيضا يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه إن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز ، وإن كان جائعا فلا فائدة في أكل الخبز ، وكما أن هذا الكلام باطل ههنا ، فكذا فيما ذكروه ، بل نقول : الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية ، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات ، وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجا إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزا عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ، ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة ، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفا بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة ، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية ، فإذا كان الدعاء مستجمعا لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات .

وقوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل ، فما لم يعتقد [ ص: 106 ] العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع ، فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه ، فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه . والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال : " ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة " ثم قرأ : ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [غافر : 60] وتمام الكلام في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) [البقرة : 186] والله أعلم .

المسألة الثانية : في تقرير شرائط الدعاء .

اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهدا لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهدا لكون مولاه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة ، فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله : ( ادعوا ربكم تضرعا ) ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص ، فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص ، وهو المراد من قوله تعالى : ( وخفية ) ، والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء ، والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الإخلاص عن شوائب الرياء ، وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه : ( تضرعا وخفية ) مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء ، وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه ، وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط ، فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فيطلب من هناك .

المسألة الثالثة : " التضرع " التذلل والتخشع ، وهو إظهار ذل النفس من قولهم : ضرع فلان لفلان ، وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال ، " والخفية " ضد العلانية ، يقال : أخفيت الشيء إذا سترته ، ويقال " خفية " أيضا بالكسر ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه " خفية " بكسر الخاء ههنا ، وفي الأنعام ، والباقون بالضم ، وهما لغتان .

واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء ، ويدل على وجوه :

الأول : هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقرونا بالإخفاء ، وظاهر الأمر للوجوب ، فإن لم يحصل الوجوب ، فلا أقل من كونه ندبا .

التالي السابق


الخدمات العلمية