صفحة جزء
ثم قال تعالى بعده : ( إنه لا يحب المعتدين ) والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين ، وهما التضرع والإخفاء ، فإن الله لا يحبه ، ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب ، فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء ، فإن الله لا يثيبه البتة ، ولا يحسن إليه ، ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة ، فظهر أن قوله تعالى : ( إنه لا يحب المعتدين ) كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء .

الحجة الثانية : أنه تعالى أثنى على زكريا فقال : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) [مريم : 3] أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطع به إليه .

الحجة الثالثة : ما روى أبو موسى الأشعري ، أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم ، فقال عليه السلام : " ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وإنه لمعكم " .

[ ص: 107 ] الحجة الرابعة : قوله عليه السلام : " دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية " وعنه عليه السلام : " خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي " وعن الحسن أنه كان يقول : إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره ، يفقه الكثير وما يشعر به الناس ، ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به . ولقد أدركنا أقواما كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همسا ؛ لأن الله تعالى قال : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) وذكر الله عبده زكريا فقال : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) [مريم : 3] .

الحجة الخامسة : المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة ، فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة البتة ، فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصونا عن الرياء .

وههنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها ، وهي : أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها ؟ فقال بعضهم : الأولى إخفاؤها صونا لها عن الرياء ، وقال آخرون : الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات . وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال : إن كان خائفا على نفسه من الرياء ، الأولى الإخفاء صونا لعمله عن البطلان ، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء .

المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة - رحمه الله - : إخفاء التأمين أفضل . وقال الشافعي - رحمه الله - : إعلانه أفضل ، واحتج أبو حنيفة على صحة قوله ، قال : في قوله : " آمين " وجهان :

أحدهما : أنه دعاء .

والثاني : أنه من أسماء الله .

فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) وإن كان اسما من أسماء الله تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى : ( واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ) [الأعراف : 25] فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية . ونحن بهذا القول نقول .

التالي السابق


الخدمات العلمية