صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قوله : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) معناه ولا تفسدوا شيئا في الأرض ، فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء ، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل ، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة ، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف ، وإفساد العقول بسبب شرب المسكرات ، وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة : النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول . فقوله : ( ولا تفسدوا ) منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود ، والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه ، فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة ، وأما قوله : ( بعد إصلاحها ) فيحتمل أن يكون المراد بعد أن أصلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق والموافق لمصالح المكلفين ، ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض بسبب إرسال [ ص: 109 ] الأنبياء وإنزال الكتب ، كأنه تعالى قال : لما أصلحت مصالح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع فكونوا منقادين لها ، ولا تقدموا على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع ، فإن ذلك يقتضي وقوع الهرج والمرج في الأرض ، فيحصل الإفساد بعد الإصلاح ، وذلك مستكره في بداهة العقول .

المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق .

إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصا خاصا دل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا بقي على التحريم الذي دل عليه هذا النص .

واعلم أنا كنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) [الأعراف : 32] أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ، ثم بينا أنه لما كان الأمر كذلك دخل تحت تلك الآية جميع أحكام الله تعالى ، فكذلك في هذه الآية أنها تدل على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة .

وإذا ثبت هذا كان جميع أحكام الله تعالى داخلا تحت عموم هذه الآية ، وجميع ما ذكرناه من المباحث واللطائف في تلك الآية فهي موجودة في هذه الآية ، فتلك الآية دالة على أن الأصل في المنافع الحل ، وهذه الآية دالة على أن الأصل في جميع المضار الحرمة ، وكل واحدة من هاتين الآيتين مطابقة للأخرى مؤكدة لمدلولها مقررة لمعناها ، وتدل على أن أحكام جميع الوقائع داخلة تحت هذه العمومات ، وأيضا هذه الآية دالة على أن كل عقد وقع التراضي عليه بين الخصمين ، فإنه انعقد وصح وثبت ؛ لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفسادا بعد الإصلاح ، والنص دل على أنه لا يجوز .

إذا ثبت هذا فنقول : أن مدلول هذه الآية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله : ( أوفوا بالعقود ) [المائدة : 1] وبعموم قوله تعالى : ( لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [الصف : 2 ، 3] وتحت قوله : ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) [المؤمنون : 8] وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود .

إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصا دالا على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح ، قضينا فيه بالبطلان تقديما للخاص على العام ، وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات . وبهذا الطريق البين الواضح ثبت أن القرآن واف ببيان جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية