صفحة جزء
( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ) .

قوله تعالى : ( قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ) .

في الآية مسائل :

[ ص: 165 ] المسألة الأولى : قال الفراء والكسائي في " باب أما وإما " إذا كنت آمرا أو ناهيا أو مخبرا فهي مفتوحة ، وإذا كنت مشترطا أو شاكا أو مخيرا فهي مكسورة ، تقول في المفتوحة : أما الله فاعبدوه ، وأما الخمر فلا تشربوها ، وأما زيد فقد خرج .

وأما النوع الثاني : فتقول إذا كنت مشترطا ، إما تعطين زيدا فإنه يشكرك ، قال الله تعالى : ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد ) [ الأنفال : 57 ] وتقول في الشك : لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو ، وتقول في التخيير : لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها ، وإما أن أبيعها ، والفرق بين " إما " إذا أتت للشك وبين " أو " ، أنك إذا قلت : جاءني زيد أو عمرو ، فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشك فقلت : أو عمرو ، فصار الشك فيهما جميعا . فأول الاسمين في " أو " يجوز أن يكون بحيث يحسن السكوت عليه ، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ، ألا ترى أنك تقول : قام أخوك . وتسكت ثم تشك فتقول : أو أبوك ؟ وإذا ذكرت " إما " فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك ، وليس يجوز أن تقول : ضربت إما عبد الله ، وتسكت . وأما دخول " أن " في قوله : ( إما أن تلقي ) وسقوطها من قوله : ( إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) [ التوبة : 106 ] فقال الفراء : أدخل " أن " في " إما " في هذه الآية ؛ لأنها في موضع أمر بالاختيار ، وهي في موضع نصب ، كقول القائل : اختر ذا أو ذا ، كأنهم قالوا اختر أن تلقي أو نلقي ، وقوله : ( إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) ليس فيه أمر بالتخيير ، ألا ترى أن الأمر لا يصلح ههنا ، فلذلك لم يكن فيه " أن " ، والله أعلم .

المسألة الثانية : قوله : ( إما أن تلقي ) يريد عصاه ( وإما أن نكون نحن الملقين ) أي ما معنا من الحبال والعصي ، فمفعول الإلقاء محذوف . وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن القوم راعوا حسن الأدب ، حيث قدموا موسى عليه السلام في الذكر ، وقال أهل التصوف : إنهم لما راعوا هذا الأدب لا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب . ثم ذكروا ما يدل على رغبتهم في أن يكون ابتداء الإلقاء من جانبهم وهو قولهم : (وإما أن نكون نحن الملقين ) لأنهم ذكروا الضمير المتصل وأكدوه بالضمير المنفصل ، وجعلوا الخبر معرفة لا نكرة .

واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولا وأظهروا ما يدل على رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام : ( ألقوا ما أنتم ملقون ) وفيه سؤال : وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر ، وذلك كفر ، والأمر بالكفر كفر ، وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول : ألقوا ؟

والجواب عنه من وجوه :

الأول : أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقا ، فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك ، كقول القائل منا لغيره : اسقني الماء من الجرة ، فهذا الكلام إنما يكون أمرا بشرط حصول الماء في الجرة ، فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر البتة ، كذلك ههنا .

الثاني : أن القوم إنما جاءوا لإلقاء تلك الحبال والعصي ، وعلم موسى عليه السلام أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك ، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير ، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم ، وقلة مبالاة بهم ، وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة ، وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبدا .

الثالث : أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر ، وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره ، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ؛ ليمكنه الإقدام على إبطاله . ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها ؛ يقول له : هات ، وقل ، واذكرها ، وبالغ في تقريرها ، ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة [ ص: 166 ] فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها ، فكذا ههنا . والله أعلم .

ثم قال تعالى : ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس ) واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه . قال القاضي : لو كان السحر حقا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم ، فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالا عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه . قال الواحدي : بل المراد : سحروا أعين الناس ، أي قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات . وقيل : إنهم أتوا بالحبال والعصي ، ولطخوا تلك الحبال بالزئبق ، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي ، فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا ، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها .

وأما قوله : ( واسترهبوهم ) فالمعنى : أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي . قال المبرد : ( واسترهبوهم ) أرهبوهم ، والسين زائدة . قال الزجاج : استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس ، وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك : أيها الناس احذروا ! فهذا هو الاسترهاب . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى ، فأوحى الله عز وجل إليه ( أن ألق عصاك ) قال المحققون : إن هذا غير جائز ؛ لأنه عليه السلام لما كان نبيا من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه ، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل ، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف .

فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) [ طه : 67 ] .

قلنا : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب ، بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم .

ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم : ( وجاءوا بسحر عظيم ) روي أن السحرة قالوا : قد علمنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء ، فإنه لا طاقة لنا به . وروي أنهم كانوا ثمانين ألفا ، وقيل : سبعين ألفا ، وقيل : بضعة وثلاثين ألفا ، واختلفت الروايات ، فمن مقل ومن مكثر ، وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد .

ثم قال تعالى : ( وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ) يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي . وروى الواحدي عن ابن عباس أنه قال : يريد : وألهمنا موسى أن " ألق عصاك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية